أنت الآن هنا: الصفحة الرئيسة - أحداث ومحطات - فتنة غرداية ديسمبر 2013 - حول فوضـــى القـــرارة

أحداث ومحطات

الإثنين 22 ديسمبر 2014

حول فوضـــى القـــرارة

عبدالوهاب بن الشيخ عبدالرحمن بكلي-وزير سابق

هذا كذلك مقال لم ينشر بعد وهو حديث العهد نوعا ما، وقد أتى تبعا لِما عرفتها القرارة من قلاقل بكلّ أسف، قبل أن تشملها الأحداث الأخيرة، وهـو كما يلي:

 شاءت الأقدار أن أرفع قلمي هذه المرة لأسجّل بمرارة ما حدث بمدينة القرارة، هذه المدينة الآمنة المطمئنة الواقعة جنوب الجزائر وفي ولاية غرداية بالتحديد. فقد ذاع صيتها ونالت التقدير والاحترام بفضل مركزها العلمي إذ غدت المنارة بالنسبة لقرى وادي ميزاب لمّا استلمت مشعل الإصلاح الديني عن مدينة بني يسجن وقاد المسيرة المظفرة زعيمها المرحوم الشيخ بيوض إبراهيم بن عمر كما كان من أبنائها البررة رائد الصحافة العربية في الجزائر المرحوم الشيخ أبو اليقظان حمدي الحاج إبراهيم بن عيسى بالإضافة إلى العديد من العلماء المبرزين أمثال الشيخ عدون شريفي والشيخ الناصر مرموري رحمهما الله وغيرهما. ولقد كانت القرارة منارة للعلم بفضل معهد "الحياة" العامر الذي تخرّجت منه العديد من دفعات التلاميذ منذ الثلاثينيات، نبغ منهم فقهاء وكتاب أدباء وشعراء شرّفوا الجزائر جميعا ورفعوا رأسها عاليا، كما كان لبعض خريجيها شرف الجهاد والاستشهاد في سبيل الوطن وللكثير منهم فضل العمل المخلص الجادّ في بناء الجزائر، خاصّة في التعليم والصناعة والتجارة، والمجال لا يتّسع مع الأسف لذِكر أولئك وهؤلاء. ولا يفوتنا أن نشير إلى أنّ إشعاع هذا المعهد قد بلغ جهات متعدّدة من الوطن و بخاصّة أبناء الجنوب القريبين من القرارة مثل الشاعر الموهوب المرحوم محمّد الأخضر السائحي كما حظي به إخوان من ليبيا خاصة مثل الشيخ المرحوم علي يحي معمر وغيرهما كثر. وبعبارة موجزة كان لهذه القرارة دور هام في النهضة العلمية وفي الحفاظ على عنصرين هامّين من الهوية الوطنية وهما الدين الإسلامي واللغة العربية، خاصّة أيام أن كان الاستعمار الفرنسي البغيض يعمل بكلّ قواه ووسائله لطمس شخصية الشعب الجزائري

ولقد كان من جهة أخرى لعمل المشايخ التوعوي واستنهاض الهمم أثره البليغ في تنمية مختلف الحركات التجارية والصناعية لأبناء القرارة وغيرهم، سواء في الجنوب أو في شمال الوطن، ممّا وفر العديد من فرص العمل وساهم في رفاهية وازدهار أبناء البلدة والمنطقة، وهذا هو ما يمكن لأيّ دارس أو ملاحظ ذكي ومنصف أن يلمسه.

إنّ كلّ هذه النتائج هي مبعث فخر واعتزاز حقًّا، لكن طبيعة بعض النفوس قد تجعله مصدر حسد، فتعمل على إثارة النعرات وإذكاء نيران الفتنة بين الإخوة المتساكنين، وهو ما عاشته بعض مدن المنطقة مع الأسف، وعانت منه القرارة أخيرا.

ومن المعلوم أنّ ولاية غرداية لها وضعية متميزة. فقد جمعت إلى جانب السكان البربر الإباضيين إخوة عرب من المالكية. ورغم الاختلافات الطفيفة في التقاليد والعادات إلاّ أنّ التعايش والاشتراك بينهم كان قويا، سواء في الفلاحة أو تربية المواشي أو التجارة، كما كان للرضاعة بينهم دور إيجابي خاصّة في الماضي، فتوطدت العلاقات بينهم وساد الوئام، ونعموا بحسن الجوار منذ سالف الأزمان، وتأثّر كلّ من الآخر إيجابيا بفضل الروح السمحة والبساطة و العفوية والتكافل الاجتماعي، خصال كانت أقرب ما تكون إلى التقاليد العربية الإسلامية العريقة، فعمّ الخير الجميع واستفاد من النهضة العلمية التي احتضنتها القرارة كما أسلفنا.

لكن الأوضاع تطورت ولم تكن إيجابية كلّها مع الأسف. فطغى الحسد على التنافس المشروع والشريف، فبرزت دعوات إلى زعامات وتطرفات في ظلّ محاولة التسلّط والتحكم باسم النظام القائم. ولقد كان لمحاولة فرض النظام الاشتراكي ضلع في إثارة الحزازات والصراعات الهامشية حول مظاهر الثراء المزعوم ولما كان بارزا نوعا ما لدى الميزابيين الإباضيين، فجلب لهم من إخوانهم التحامل والتجني، فتطوّر بفعل التوجيه العقيم للسلطات الحزبية خاصّة إلى كراهية ثمّ حسد، تجدّر بفعل الزمن. وهكذا بدأت المناوشات والتعدّيات البسيطة للإخوة على بعض إخوانهم.

و لعلّ المحطة التي استغلت أكثر وألّبت البعض على البعض هي تطبيقات تدابير الثورة الزراعية. وللعلم فإنّ أبناء الجنوب عامّة والقرارة على وجه الخصوص قد اعتنوا بغرس النخيل، بل سخّروا وسائل جبارة لتوسيع المساحات بتعبيد الطرق عبر الغابة وإحياء الأراضي، فأنشؤوا واحات غنّاء بذلوا في سبيل ذلك جهودا مضنية و أموالا طائلة، لكن لمّا لم تتبع جهودهم تلك بالإجراءات الإدارية كإصدار العقود ولو مؤقتة، أصبحت المساحات المستصلحة موضوع جدل واعتبرت مثل غيرها من أملاك الدولة الشاغرة لتشملها المرحلة الأولى من تطبيق الثورة الزراعية، مع العلم كما ذكرناه في مقال آخر أنّ مستوى المساحة وكذا عدد النخيل المعتمد كان مجحفا حقًّا، ذلك أنّ الواحات عموما وفي ولاية غرداية على الخصوص لها طابع متميّز اجتماعيا، ولا يمكن اعتباره ذا مردود اقتصاديا. ولمّا كانت تلكم المساحات قد انتزعت لطائفة بني ميزاب وأسندت لإخوانه العرب فقد أصبح مثل هذا الإجراء من عوامل زرع الغضب فالحقد بين الإخوة، ولم تفلح الطعون المطروحة على مكاتب المسؤولين من تصحيح الأخطاء المرتكبة في حقّ هؤلاء الذين وضعوا ثقتهم في الدولة لمّا بذلوا الجهود الجبارة لتوسيع غرس النخيل بإحياء الأرض الموات، ولا في تدارك الأخطاء في حقّهم ابتداء من منحهم العقود إلى حمايتهم من التطبيق المجحف لتدابير الثورة الزراعية.

وهكذا بدأ التحامل على طائفة بني ميزاب فوصفوا بالبرجوازيين في حين أنّ نظامهم الاجتماعي بفضل تضامنهم هو أبعد ما يكون عن تلكم الذهنية. ذلك أنّ ما توصلوا إليه من شبه رفاهية تحصلوا عليه بفضل مثابرتهم وتحمّلهم الصعاب والعيش الضنك منذ زمان، وبخاصّة أيام الحكم الغاشم الذي جثم على الجزائر عامّة، وعلى الصحراء بوجه خاص لمّا كان الحكم العسكري مسلّط عليهم. فإذا ما تمكّن سكان الجنوب مثل القرارة من تكوين رصيد أو ظهرت عليهم علامات شبه رفاهية في الآونة الأخيرة، فذلك إحدى النتائج الإيجابية للاستقلال من جهة وللعمل الجادّ الذي يمتازون به كما يشهد بذلك كلّ من عرفهم أو عاشرهم من جهة أخرى. فمن الخطإ إذن حشر العاملين الذين وفّروا أموالا بعد أن حرموا أنفسهم وأهليهم منها مدّة، مع من استفاد ممّا ترك المعمّر أو من ريع ثروات الوطن. إنّ هذه النظرة وهذا الحكم المجحف المفرط لهو من الأسباب الدفينة للحنق السائد بين الإخوة مع الأسف.

هذا ومن العوامل التي عمّقت هذا الشرخ ما أتت به النظريات المتطرفة مع اتساع الدعوة الإسلامية وبروز الأفكار السلفية التي رجعت إلى نبش الماضي الدفين، والذي طوي بفضل الوعي الوطني والتلاحم الذي تدعم إبّان الثور أيّام كان كلّ الجزائريين صفًّا متراصا ضدّ المستعمر، فلم تفلح أيّة محاولة لإحداث أيّة ثلمة في صفوف الجزائريين أبناء الوطن الواحد. ويعلم الله كم حاول  المحتل وأذنابه وعلى الخصوص اليهود الذين يعتبرون بني ميزاب منافسين لهم بقوّة في التجارة من زرع الفتنة. فلمّا لم ينجحوا فكّروا في ما سمي بالمقاطعة لهم بإغراء إخوانهم عليهم، معتمدين على انتمائهم للمذهب الإباضي الذي كانوا ينعتونه بالخَامْسِي. ولقد وقعت محاولة في الماضي سواء في البليدة أو في قسنطينة قاسى منها التجار الميزابيون كثيرا، لكن المحاولة الأخيرة التي لجأ إليها العدو بتواطئ مع تجار الجملة اليهود أيّام الثورة باءت بالفشل الذريع بفضل التدخل الصارم لقادة الثورة المظفرة، ذلك لأنّ لها في عدّة دكاكين للتجار الميزابيين مراكز حسّاسة للقيادة العليا آنذاك.

لكن إثارة هذه النعرة من جديد باسم النظريات السلفية التي بدأت تترسخ في الجزائر، وتنعت الإباضية بالخوارج، مع كلّ ما ينسب إليهم بهتانا وزورا، هو ممّا يعدّ نفخ في الرماد الذي يغطي الجمر، وهو ما هيج العواطف وأجج نيران الفتنة اللعينة بين الإخوة الذين نعموا بثمار الحرية وما وفّرت القرارة وغيرها من مدن وادي ميزاب من حظوظ وفرص للتعلم والعمل في مودّة واحترام.

لقد كان الجو أخويا حقّا لولا استغلال مثل الأخطاء التي أشرنا إليها. هذا وإنّ اعتماد بعض السلطات الإدارية والحزبية على التفرقة بين بني ميزاب والعرب، بدعوى التوازن بينهما بمناسبة مختلف الاستحقاقات الانتخابية أو التعيينات الإدارية، لممّا عمّق الشعور بالتهميش والحڤرة كما يقال. وكلّ ذلك ظل يفعل فعلته في الشعور واللاشعور إلى أن اعتمدت الجزائر التعددية وحرية الرأي والمعتقدات، فانبرى كلّ طرف يسعى في فوضى لدعم مواقفه محاولة انتزاع حقوقه، ولو على حساب الاستقرار والأمن العام، ممّا أضاف لعناصر التوتر قوة فتعقدت الأمور.

 هذا وإنّا لم نتعرض إلى المعاكسات والتعسف في التعامل مع المواطنين، والتجاوزات بصفة عامّة في مجال استعمال اللهجة المحلية وتسمية واجهات المحلات بها مثلا، ولو كانت تكتب بالأحرف العربية، أو المحافظة على اللباس التقليدي الساتر خاصّة للكشافة، ومحاولة فرض القبعة الإفرنجية بدل الطاقة البيضاء المعروفة في الوطن والرمز في المنطقة، إلى غير ذلك ممّا يتّصل بالتقاليد والعادات مما يثير غضب و استنكار الشباب خاصّة.

وبالنسبة للقرارة فقد عرفت أحداثا مصطنعة مثل قضية اتهام فرع الحياة للكشافة الإسلامية الجزائرية بتدنيس العلم الوطني، فأقامت الدنيا ولم تقعدها إلاّ حكمة المشايخ والأعيان لبني ميزاب والعرب كما اصطلح عليه، لكنّها تركت مع الأسف آثارا عميقة. ولقد شهدت القرارة مظهرا له دلالاته يوم أن زار فخامة رئيس الجمهورية السيّد عبد العزيز بوتفليقة المدينة إذ استقبله سكان حي من أحيائها، حيث يسكن الإخوة العرب، بنداء يطالبون فيه باستحداث بلدية خاصّة بهم. ولقد اعتبره المتتبعون آنذاك مؤشرا خطيرا لما تعيشه القرارة والمنطقة عامّة. وقد اعتبرت هذه اللقطة صورة لتردي الأوضاع وسوء الأحوال وممّا ينذر بأخطر من ذلك.

وتأتي أحداث أخرى قبل أشهر بمناسبة تخصيص قطعة أرض لبناء مساكن، فانبرى فريق يدعي أنّها أرض دفن فيها ولي صالح لهم، لكن حكمة الكبار دوما كانت صمام الأمان فأخمدت النار لوقتها، و لو أنّ الجمرة بقيت مشتعلة تحت الرماد، وهكذا استغل بعض الشباب الطائش مناسبة مقابلة في كرة القدم بين فريقين من أبناء البلدة لإذكاء النار من جديد. فبمجرد انتهاء المباراة حتى بدأ التراشق بالحجارة بينهم، ثمّ تطورت الأوضاع فاتسعت المناوشات، ومسّت مختلف المحلات التجارية لتصل إلى الحرق والنهب، ثمّ التعدي بالضرب واقتحام المنازل والترويع والإيذاء بمختلف الأشكال، ممّا سبب في انتشار الفوضى، فشلّت الحركات وانقطعت التموينات بحيث اضطرت النفوس الخيّرة إلى نجدة البلدة بمختلف الحاجيات، حتّى الضرورية منها مثل الخبز ما دامت المخابز قد مسّها التخريب.

هذا وإنّ المظاهر التي شوهدت في القرارة من وضع المتاريس وإحراق العجلات والتراشق بالحجارة والزجاجات الحارقة والسطو على المحلات والممتلكات، والتحامل على أعوان الأمن هي نفسها التي نشاهدها هنا وهناك بمناسبة أيّة مظاهرة أو احتجاج. فقد غدت مع الأسف أسلوبا معتمدا بعد أن اقتبس ممّا يشاهده الجمهور عبر الشاشات لما تعرضه عند الآخرين. هذا وإنّ الإذعان لمثل هذه التصرفات ومحاولة التفاوض مع المشاغبين، لممّا شجّع الآخرين على اقتفاء أثرهم ما دامت السلطات العليا تخضع لهم.

ولقد نتجت عن هذه الفوضى خسائر كثيرة، كما تضرّرت أملاك وخربت محلات، وأتلفت سلع مختلفة وسرقت بعضها، كما سجلت حالات عديدة من الجرحى ووفاة شاب متأثر بجراحه. إنّ هذه الخسارات يمكن عدّها بالهينة إذا ما قورنت بما تركته وتتركه في النفوس من رواسب وجروح  معنوية قد لا تمكن مداواتها إلاّ بعد مدّة، وبفضل جهود جبّارة ومساعي حثيثة حميدة، وذلك ما نتمناه من صميم الفؤاد.

ولعل من العوامل المطمئنة ما دعونا إليه في مناسبات عدّة وهو الاعتناء بالجانب المعنوي، بإيلاء المذهب الإباضي المكانة التي هو أهل لها، وكذا المذهب الحنفي إلى جانب المذهب المالكي الذي هو بحقّ مذهب الأكثرية، وعدم إغفال ذِكره على الأقل في معرض الحديث عن مكونات العقدية للشعب الجزائري، لأنّ ذلك يعطي لهذا العنصر الهام وزنه على مستوى الاعتبار الرسمي، ويعدّ هكذا اعتراف به. كما يجب تشجيع الجهود للتعريف به من منابعه الصافية الأصيلة حتّى تنفى عنه الشبهات، وتحارب الدعوات الجاهلية التي تنعته بالخوارج، وهو ما اعتمد عليه مثيرو الفتن قديما وحديثا، والإنسان دوما عدو لِما جهل.

أمّا عن اللهجة المحلية فيكفي السماح لمن أراد التداول بها أن يتمتع بذلك، خاصّة وأن أبناء ميزاب قد سبق لأجدادهم التأليف والتدوين بها مستعملين الحروف العربية دون عقدة، ذلك أنّ علماء المنطقة يؤمنون أنّ اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم ولغة أهل الجنّة، لا تدانيها أيّة لهجة أو لغة أخرى. هذا وإنّ اعتماد فكرة الإذاعات المحلية هي من المبادرات الحميدة التي ساهمت كثيرا في حلّ هذه القضية التي حاول بعض ممّن يصطادون في المياه العكرة استغلالها، واغتنام الفرصة للتدخل كما شاهدنا في الأحداث الأخيرة في القرارة، مثل ما حاولوا قبل اليوم في أحداث بريان، فلم تأت تلكم التدخلات إلاّ بالنتائج العكسية.

ولقد ظنّوا أنّهم بإقحام مسألة حقوق الإنسان أن يعطوا وزنا لمحاولاتهم، كما بالغوا في تشويه تدخل القوات الأمنية للنيل منها وللاعتماد على الهفوات الصادرة منها لتبرير تدخلاتهم، وانتقال بعضهم إلى عين المكان للاطلاع على التجاوزات حسب زعمهم لفضحها، لكن لم تزد مساعيهم إلاّ تعقيدا للأوضاع عوض انفراجها بل تمّ تأويلها كدعم لطائفة، ممّا زاد الوضع تأزما. ولا بأس أن نشير إلى ضرورة اللجوء إلى قوات من خارج الولاية للتصدي لأحداث الشغب عموما، حتّى لا يقع عناصرها الساكنون في أيّة ولاية أو منطقة في حرج نظرا لمعرفتهم بالنّاس أو الاختلاط معهم أو حتّى مصاهرتهم.

وممّا يحز في نفوس شباب المنطقة هو عدم إسناد المناصب العليا لهم رغم تمتعهم بالكفاءات العلمية السامية والتجربة الكافية المطلوبة لتقلّد مثل تلك المناصب والمسؤوليات في حين أنّ جهات أخرى من الوطن حظيت بمثل هذه الالتفاتات الذكية.

ولقد ظنّ أهل المنطقة أنّ مناسبة التعيينات الأخيرة مواتية لتدارك الأوضاع لكن بدون جدوى. ولعلّ ما زاد في إحباطهم هو ما لمسوه حتّى من تجاهل قرار جريء لفخامة السيّد رئيس الجمهورية لدى زيارته لولاية غرداية وإعلانه أمام الملإ عن تسمية الجامعة باسم العلامة الجليل وقطب الأئمة المرحوم الشيخ أطفيش محمّد بن يوسف. ولا أحد يدري لحدّ اليوم ما هي الموانع التي تقف وراء هذا التماطل وعدم احترام القرار الرئاسي، غير أنّهم قد ربطوا ذلك بما عاشوه بمناسبة تعليق اللوحة الحاملة لاسم العلامة الجليل الإمام المرحوم الشيخ بيوض إبراهيم بن عمر على واجهة ثانوية القرارة. فقد اضطر فخامة السيّد رئيس الجمهورية إلى أمر السيّد والي الولاية آنذاك بالتنقل والإشراف بنفسه على العملية فتمت وسط رضا ومباركة الجميع.

إنّ هذه التصرفات ومثيلاتها حول تسميات عدّة هي من عوامل التوتر والقلق الذي يزيد في شحن الأجواء مع الأسف، خاصّة لمّا يتعلّق الأمر بالماضي، وما يستغله الكثير من الانتهازيين للمزايدة والتبجح بالمشاركة في الثورة ومحاولة النيل من رموز المنطقة بالخصوص، في حين أنّهم ليسوا على دراية تامّة بحقيقة الأوضاع وخلفياتها بل وأسرارها لأنّ ذلك من طبيعة المعركة وأساليبها.

وتبقى حتمية دراسة الأوضاع بعمق وتحليل ما جرى ويجري، لتدارك الأمر وعلاجه بجدّية وسرعة، حتّى لا تتكرر مثل هذه المآسي مرّة أخرى، أو تتطور إلى ما لا تحمد عقباه. فلابدّ إذن من حلّ المشاكل العالقة بخصوص السكن والشغل خاصّة، ولو أنّ البطالة الظاهرة لا تفسّر لوحدها ما يصدر عن الشباب، إذ الآفات الجديدة التي تنخر يوما بعد يوم جسم المجتمع الجزائري هي الأولى بالتتبع عن كثب. فالمخذرات قد انتشرت مع الأسف بشكل مهول ومسّت مختلف الطبقات، وأضحى تعاطيها ملجأ لكلّ من يشتكي من أيّ مشكل أو بدونه. ثمّ إنّ شبكات توزيعه قد وفّرت لبعض العاطلين وبخاصّة الشباب، مصدر ارتزاق ودخل معتبر بأسهل الطرق وأسرعها. ولعلّ هذه الظاهرة هي التي تكون وراء العديد من المشاغبات حتّى تحوّل أنظار المسؤولين، وكذا مصالح الأمن عنهم حتّى يتسنى لهم التستر من جهة، ومواصلة النهب والسرقة من جهة أخرى. لذا يجب تتبع العصابات التي تتعامل مع هذه الآفة، وبخاصّة بعد رجوع الأمن والاستقرار للقضاء على بؤر الداء، واستئصاله من جذوره التي لا شك وأنّها تمتد إلى العديد من البارونات، ذلك لأنّ هذه الظاهرة الرهيبة والهدّامة أصبحت من الآفات العابرة للبلدان بل والقارات. لذا أضحى لزاما كلّ مرّة على المسؤولين البحث عمّن وراء هذه التحركات المريبة وعن المستفيد منها.

ومن المهمّ أيضا فتح تحقيقات لفضح المتسبّبين في كلّ هذه الفوضى، حتّى لا يتساوى الظالم والمظلوم المتضرر كما سبق وأن وقع ذلك، كما يجب الأخذ بعين الاعتبار ومراقبة العناصر العديدة الوافدة عبر مختلف وسائل النقل، إذ أنّ سهولة التنقلات وسيولتها قد مكّنت كلّ متربص أو طائش من التسلل إلى أيّ مكان يشهد اضطرابات للإمعان في الإجرام والسرقة والمساهمة في بث الفوضى، وزرع الفتنة وتأجيج نارها.

وهناك ظاهرة أخرى لا بأس من الإشارة إليها، وهي التفرقة التي ظهرت أخيرا في صفوف الأقسام، فصار حتّى الجلوس مصنّفا تبعا للطائفة، وهو مؤشر خطير يجب على الأساتذة والمعلّمين محاربته بدون هوادة، وبكلّ لباقة وبيداغوجية إذ تعتبر المؤسسات التعليمية مهد التربية وإحدى رسالاتها المقدسة، ذلك أنّ هذه الظاهرة إن استمرت من شأنها تقوية العنصرية بين التلاميذ منذ الصغر. وما دام التمدرس يدوم لسنوات فإنّه مع الأسف يعمّق الشرخ، فلا تلبث أن تظهر آثاره في سلوكات الشبيبة عند ولوجهم الجامعة، ثمّ لدى الكهول في مختلف مناحي الحياة.

وبالمناسبة حبّذا لو رجع تنظيم التعليم العالي إلى فكرة الجامعة حسب التخصّصات، واعتماد أقطاب جامعية ولو تعدّدت، تجسّد حقًّا معنى الجامعة، فيلتقي مختلف أبناء الجزائر مع بعضهم البعض، فيكونون متعارفين ولو أتوا من ولايات مختلفة، منسجمين في التكوين والتوجيه، وتربطهم صداقات لها ما لها من آثار حميدة فعالة في باقي حياتهم، كما أنّ لها عظيم الآثار في الحياة العملية بعد التخرّج وخوض غمار العمل. وبهذا التوجّه نبطل فكرة جامعة الدوار فنقضي على الانغلاق والتقوقع اللذان يقويان العنصرية، ويغذيان الكراهية التي تعتبر الطامة الكبرى لمّا تتجذر حتّى في أوساط المثقفين.

ويبقى التوجيه والإرشاد الديني دعامة أساسية لابدّ من الاعتناء بها على الدوام، فلا تكفي الحملات ولا المناسبات فقط لتعهد المواطنين عامّة والشباب خاصّة، كما يجب على متصدري هذه المهمّة الخطيرة أن يتجنبوا الشبهات، فلا يركزوا على الاختلافات بقدر ما يلحوا على عناصر الوحدة وما أكثرها والحمد لله. وفي هذا السياق لا بأس للوعاظ والمرشدين وكذا وسائل الإعلام عامّة أن يتنبهوا إلى خطورة الإشاعات والأكاذيب التي تبث بهتانا وزورا، أو حتّى إلى الأحاديث المغرضة أو المضلّلة التي تدس السمّ في الدسم، أو تدخل في متاهات وجزئيات عهود الانحطاط التي عرفها الإسلام.

وفي الختام لا يمكن لأيّ عاقل إلاّ أن يتأسف ويتحسّر لِما جرى ويجري. لا في القرارة، أو قبل ذلك في بريان وغرداية أو في غيرها من مدن الولاية مثل متليلي أو المنيعة أو الضاية، أو في أية منطقة من الوطن، لأنّ ذلك ممّا يزعزع استقراره ويعطّل نموه وتقدّمه من جهة، ويعكر صفو حياة المواطنين من جهة أخرى، زيادة على تشفّي الأعداء فينا، وهذا ما لا يجب على أيّ غيور على وطنه أن يرضاه خاصّة وأنّه عرف بالتسامح والتعايش، في أمان وأخوّة وتضامن إسلامي عريق منذ غابر الأزمان.

 

العطـف يوم:  31  ديسمبر  2013م

 

 فهرس المقالات :

 

- مقدمة

 

- حول بعض الأوضاع المحلية

 

- حول أحـــداث غردايـــة

 

- حــــول فتنة بريـان

 

- حول فوضـــى القـــرارة

 

- حول أحداث غـــرداية الأخيرة

 

- الخـــاتمــــة

 

- الخلاصة: بعض الأفكار الرئيسية والهامّة التي وردت في الكتيّب

 

 

 

إضافة تعليق