أنت الآن هنا: الصفحة الرئيسة - أحداث ومحطات - فتنة غرداية ديسمبر 2013 - حول أحـــداث غردايـــة

أحداث ومحطات

السبت 20 ديسمبر 2014

حول أحـــداث غردايـــة

عبدالوهاب بن الشيخ عبدالرحمن بكلي-وزير سابق

إنّ هذا المقال هو أيضا ممّا لم يسبق نشره على صفحات اليوميات. ونظرا لأهميته كمحاولة لتناول الأحداث من زاوية تحليلية ونظرة واقعية ميدانية، فقد تمّ إدراجه ضمن المقالات المنشورة في الطبعة الأولى للكتيّب "انطباعات وأفكار". وهو كما يلي:

لقد شهدت غرداية حوادث مأساوية ومؤسفة في شهر أكتوبر 2004 ميلادي وقبيل شهر رمضان المعظم 1425هجري.

لقد كان السبب الأولي هو "زدمة" بل الصدمة التي واجهها التجار جراء التدخل العنيف للجنة المتعددة الأطراف والمكلفة بمراقبة الحركات التجارية، منددين بمعاملاتها الانتقائية، خاصّة وأنّهم عبّروا غير ما مرّة عن استعدادهم للخضوع لكلّ الإجراءات القانونية، إذ أنّهم من المنضبطين، لهم عناوين معروفة وسجلات قانونية، ويؤدون الضرائب المستحقة رغم ما يعانونه من صعوبات جراء ما في الوظيفة التجارية من فوضى مستحكمة وبخاصّة عدم التزام تجار الجملة بالقوانين، ومن قبلهم المستوردين الذين يمتصون دماء صغار التجار المواجهين لكل التفتيشات، والذين تسلط عليهم أنواع العقوبات وحتّى الحجز لعدم استيفاء بعض الشروط المفروضة من طرف القانون، عكس التجار الموازين الذين يتكاثر عددهم يوما بعد يوم أمام أعين المسؤولين، إن لم نقل مشجعين من طرف جهات لها نفوذ مع الأسف.

ولقد كان لضجر التجار صدى وتعاطف لدى المواطنين، فحاولوا صدّ هذه اللجنة عن عملها، وكانت الأمور عادية كما يقع في كثير من نواحي القطر، إلاّ أنّ تصاعد حركة الاحتجاج بدأ يظهر في التجمهر، ومحاولة سدّ الطرقات، وشل حركة المرور، والمطالبة بحضور المسؤولين الولائيين، ثمّ انتقل إلى اعتماد الوسائل الاحتجاجية الني دأب عليها المواطنون عموماً في مناطق أخرى، ظنا منهم أنّ مثل هذه التصرفات أضحت الوسيلة المثلى للتعبير عن الغضب بل ولافتكاك الحقوق، والحصول على إعفاءات أو تخفيضات أو تعويضات. لكن قوّة الاحتجاج واستغلال الموقف سياسويا عقّد الأوضاع، ممّا أدّى بالسلطات الولائية إلى الاستنجاد بالقوة العمومية لمكافحة الشغب ومحاولة استتباب الأمن، مستعملة القنابل المسيلة للدموع.

ودون الخوض في تفاصيل الأحداث فإنّ بعض التصرفات العشوائية والاستفزازية قد أججت غضب المواطنين، فصار تحديهم يقوى والتصدي له يأخذ أبعادا مأساوية. وبالفعل فقد اتجه بعض المواطنين إلى تخريب المنشآت العمومية مثل مصلحة البريد والمياه وتحطيم كلّ ما أتت عليه أياديهم في الساحات العمومية. وهكذا أصبحت المواجهة سيّدة الموقف واستدعت الزيادة من قوات التدخل لفرض النظام، فانجرت عن كلّ ذلك تجاوزات من هنا وهناك واعتقالات، بعد ما تضرر كلّ من المواطنين وقوات مكافحة الشغب.

هذا ولقد قدّمت مجموعة أولى إلى المحاكمة في ترقب وجو مشحون، وكانت لأحكام العدالة ردوداً مؤسفة ولو محدودة.

وإنّنا أمام هذه الأوضاع التي لم نعهدها في هذه المنطقة الآمنة والأصيلة لا يسعنا إلاّ أن نتساءل عن الأسباب والدوافع العميقة لمثل هذه التصرفات الغريبة حقّا عن تقاليد و سلوكات أبناء هذه المنطقة. وبالفعل لقد حدثت أنواع من الاصطدامات قبل هذه، لا تقل ألمًا، سواء في غرداية أو متليلي أو بريان أو المنيعة أو الضاية أو بني يسجن أو أخيرا في مليكة. ولئن عبّرت كلّ واحدة عن حالة أو كانت انعكاسا لمعاناة معيّنة إلاّ أنّها بقيت كلّها شبه عادية لِما أصبحا نألفه من مظاهر وتصرفات للتعبير عن الغضب والاستياء هنا وهناك، وعن عدم الرضا بصفة عامّة، ولو أنّنا في بعض الأحيان نستشف من ورائها بعض التصرفات والاستغلال الذي يرمي إلى زعزعة الاستقرار أو تعريض طائفة لغضب أخرى.

فلئن كانت الأحداث المختلفة تتميّز بالاصطدام عادة بين الطائفتين، مع الأسف، فإنّ المثير للانتباه والباعث على دراسة معمقة للأسباب، هذه المرّة، هي تلكم الهجمة الشرسة على الممتلكات العمومية، والنداء بشعارات مناوئة ومعادية للسلطات المحلية، بلدية وولائية. لقد أثارت حقًّا دهشة وذهولا لدى كثير من العقلاء والمتتبعين لسلوكات أبناء هذه المنطقة المشهورة برصانتها وتعقلها وتعاملها الحضاري مع مختلف الأحداث. لكن الدارس المتمحص لِما جرى أخيرا في غرداية كما أسلفنا، والتهجم على منشآت الدولة، والتعريض بالمسؤولين بكتابات في الواجهات والجدران، ليدرك مدى التذمر الدفين والانفجار الأليم.

ولإدراك الأسباب الخفية للصراعات التي طفت على ساحة الأحداث، لابدّ من الرجوع إلى الماضي البعيد والقريب على حدٍّ سواء. وبالفعل فإنّ الصراع الذي كان يحدث من قديم بين الطوائف وبين الميزابيين والشعانبة مثلا كان مرجعه ضعف المستوى، والإحن والتطاحن الذي عرفته مختلف جهات القطر الجزائري عموما، وإلى ما حاول المستعمر استغلاله لإبقاء العصبية والحزازات حتّى يستطيع أن يحكم قبضته على أبناء المنطقة.

وبالنسبة للجهة لا بأس أن نشير إلى أنّ الصراع كان موجودا حتّى بين الميزابيين أنفسهم، بين الصف الشرقي والصف الغربي. وفي فترة من الزمن، استعان الصف الشرقي بعرش المذابيح الذين كانوا أساسا من السكان المجاورين في للْماية، كما استعان الصف الغربي بالشعانبة المجاورين وفي متليلي خاصّة، ذلك لأنّ لهؤلاء وأولئك دراية في المقارعة بالأسلحة، خلافا لأهالي ميزاب الذين لم يكونوا من المتقنين لفنون القتال. ومع تمركز الاستعمار في المنطقة اتخذ من هؤلاء المحاربين كلّهم عناصر عزّز بهم وجوده، واعتمد عليهم للتوغل في أدغال الصحراء والاستيلاء على ما تبقى من الجنوب الجزائري. ولقد استمر هذا التعامل مع القوات الغازية كما نجده في مناطق أخرى من الوطن، لكن كمصدر للرزق، وبخاصة في وقت حرج لم يجد الجزائريون وسيلة لكسب قوتهم سوى الانخراط في صفوف الجيش الفرنسي آنذاك. ولحسن الحظ، لقد ساعد تواجد مثل هذه العناصر المتقنة لاستعمال السلاح على تدعيم الثورة من طرف بعضهم لمّا استيقظ فيهم الضمير الوطني ولبّوا نداء الواجب المقدس.

إنّ هذه اللمحة الخاطفة يمكن أن تعين على فهم بعض الأوضاع التي سادت فيما بعد، وتفسّر ما سيحدث في تطور العلاقات بين الميزابيين وإخوانهم من المتساكنين.

إنّها إذن تراكمات عدّة وأسبابها متنوعة، لها جذور في الماضي وتعقيدات مستحدثة.

ولعلّ من الأساليب الأكثر ضررا وتأثيرًا هو ما يوصف بالتوازن الذي دأب على أخذه بعين الاعتبار، خطأً، كلّ من تعاقب على السلطة، وتوظيفه لاستغلال الطائفتين أو الطوائف المتعايشة منذ سالف العصور، بمدّها وجزرها، لكن دون شرخ عميق يعيق مواصلة التعايش والتبادل المفيد للجميع، خاصّة وأنّهم كانوا يعيشون في عفوية تامّة واشتراك أخوي في الفلاحة والرعي والحرث والمتاجرة، كما كان لبعض العائلات علاقة رضاعة ونسب بدون أية عقدة ولا خلفية.

ولئن لم يكن الاختلال كبيرا في القِدم، فإنّه قد شهد مؤخرا استغلالا متزايدا مع الأسف من حين لآخر. هذا وإنّ ما صاحبه من مزايدات وانزلاقات بل وانحرافات في التعامل قد أثّر أيّما تأثير على العلاقات.

وبالفعل فإنّ العلاقات إبّان الثورة قد خيّمت عليها ظلال من هذه المعطيات، وكان للتوتر الموجود كبير الأثر حتّى في التعامل مع عناصر الثورة وجبهة التحرير الوطني. ذلك أنّ المنطقة كانت تتجاذبها جهات متعددة مع اتساع رقعة الثورة المباركة نحو الجنوب، ممّا ستصبح الولاية الخامسة والرابعة وجيش الصحراء، وحتّى من عناصر بن لونيس. ولم تستقر الأوضاع إلاّ بعد استحداث الولاية السادسة وعمل شاق للمسؤولين عليها للسيطرة التامّة على مجريات الأحداث والقضاء على فلول بن لونيس وأتباع جناح مصالي.

ولقد كان من جهة أخرى لكثرة الجهات المدعية للشرعية وتمثيل جبهة التحرير الأثر البليغ في تردّد الميزابيين في الاندفاع مع هذه الجهة أو تلك، لكن العمل الثوري كان مستمرا في سرية شديدة وحذر كبير، خاصّة وأن بعضا من المقبوض عليهم قد ضعفوا تحت وطأة العذاب، فانكشف أمر بعض المناضلين، ممّا عمّق شعور الحذر، وأدّى حتى بالقيادات إلى اعتماد مجالس منفردة لكلّ من الطائفتين درءًا لكلّ محذور.

فإذا ما كان للحماس الثوري وللروح النضالية الأثر البليغ في توطيد اللحمة إلاّ أن بعض المواقف المنحازة تركت آثارا بليغة في علاقات الأخوة في المنطقة.

وللأمانة والتاريخ لا بأس أن نذكر أن بداية الاستقلال شهدت جهودا حثيثة لمناضلين مخلصين لتقريب الإخوة داخل دائرة غرداية، بحدودها الجديدة، أي بعد ضمّ بلدية متليلي إلى دائرة غرداية القديمة، فعاشت هذه أجواء من الأخوة المنعشة، بفضل نشوة الاستقلال والفرحة العارمة. فكانت اللقاءات ومحاولة مسح الآثار السلبية والدعايات المغرضة حول الميزابيين وسلوكهم إبّان الثورة ومدى مشاركتهم فيها، وكذا تعامل الجنود الشعانبة المتعاونين مع الحرْكة. ومن أبرز مظاهرها موافقة كلّ المندوبين على رأس بلديات الدائرة على اختيار أحد إخوانهم من الشعانبة لرئاسة بلدية مقر الدائرة، وقد بقي في المسؤولية حتّى صدور القانون البلدي وإجراء الانتخابات المحلية الأولى سنة 1967.

ولقد عرفت المنطقة هكذا جوا سليما لبعض الوقت إلاّ أنّ تطورات الأوضاع وتسرعها قد استغلها كالعادة بعض المغرضين لإذكاء النعرات من جديد. ولعلّ أولى مظاهرها هو ما افتعل من أحداث أيام الرئيس الثالث لدائرة غرداية في السنة الثانية للاستقلال إذ كان من أبناء المنطقة من الميزابيين ومن كبار المناضلين في صفوف الحركة الوطنية وعضوا في المنظمة السرية، ومن المساجين المحكوم عليهم بالإعدام في بداية الأمر ثمّ بالمؤبد بعد الاستئناف، ولم تهدأ القلاقل إلاّ بطلب هذا المسؤول الرحيل والعودة إلى العاصمة حيث من يعرفونه ويعترفون له بنضاله الوطني وكفاءته العالية.

ومن المواقف السلبية كذلك ما عمد إليه بعض المجاهدين والمناضلين من نكران للخدمات الجليلة التي قدّمها إخوانهم الميزابيين، في حين أنّهم زكوا كلّ من قام من أبناء عمومتهم بعمل، ولو متواضع، وأضفوا عليه صفة الجهاد أو النضال، على أنّ الميزابيين عموما لم يكونوا السباقين في تسجيل أعمالهم في الثورة، جليلة أو متواضعة، لأنّهم كانوا من الذين يؤمنون أنّ الجهاد كان في سبيل الله وللوطن، لا يرون ضرورة للتبجح به أو استعراض للعضلات، كما أنّهم لا يرجـون منه لا جزاء ولا شكورا، ولا يرتقبون اعترافا ولا نيشانا ولا منحة، أو استفادة من الإعانات المادية التي رصدتها الدولة للمجاهدين، رغم تقدّم سنّهم، وضعف صحتهم، واحتياج بعضهم. لكنّهم لما تيقّنوا أنّ السبيل الوحيد لتخليد أعمالهم، وتسجيل مساهماتهم، والحصول على حقوقهم كالآخرين لا يتم إلاّ عن طريق الحصول على تلك الوثيقة، حاولوا استدراك الأمر لكن لم يتحقق لهم ذلك إلاّ بصعوبات.

لقد كان احتقار مساهمة الميزابيين في الثورة المباركة مبالغا فيه، ذلك أنّ المجاهـدين والمناضلين في المنطقة لم يكونوا على علم بذلك، بل وليس في وسعهم الإحاطة بمشاركة الميزابيين، خاصّة وأنّهم كانوا منبثـين في كامل نواحي القطر الجزائري، وعملوا بكلّ إخلاص وتفان وسرية وجدّية مع كثير من المجاهدين المرموقين.

وإذا ما تطرقنا إلى الاعترافات بالنضال والجهاد، فإنّنا نسجل أنّ من عيوب الطريقة المعتمدة إرجاعها لكلّ مواطن إلى ولايته ومقر مولده، في حين أنّ الجهاد أو النضال كان أحرى أن يعترف لكلّ من قام به في الجهة أو الولاية أو المنطقة  التي ساهم فيها، ذلك لأنه معروف هناك حقّا، وعلى صلة بمن ساهم معه في الجهاد أو النضال.

ورغم المحاولات المتعددة للعثور على رفاقهم في الكفاح، لم يتمكن الكثير من الميزابيين من الحصول على الإشهادات اللازمة لتكوين ملفاتهم، هذا إن توفروا على الوثيقة الواجب ملؤها، ذلك لأنّ رفاقهم إما قد استشهدوا أوقد توفوا -رحمهم الله-، أو غيّروا مقرات إقامتهم أو هاجروا، أو ببساطة قد تنكروا لهم لسبب أو لآخر.

لقد كان إرجاع الكثير من الميزابيين إلى مواطن ازديادهم سببا في الصراع مع من أوكلت لهم مهمة متابعة ملفات الاعتراف بالجهاد أو النضال، وكان جهل هؤلاء لحقيقة مساهماتهم هنا أو هناك مدعاة للرفض مع الأسف، وذلك بخلاف إخوانهم المتساكنين الذين يوجدون كلية أو تقريبا في المنطقة ممّا سهل لهم تسوية أوضاعهم، فاستفاد حتّى من كان مشكوكا في ماضيه، من تعاطف مقربيه عكس الآخرين من الميزابيين.

ولقد امتدت عمليات الاعتراف فشملت حتّى من كان يتعامل مع القوات الاستعمارية، بدعوى ممّن كانوا يشرفون على عملية الاعتراف، أنّ مثل هؤلاء هم ممّن طلب منهم المكوث ضمن مكاتب أو صفوف العدو لإمداد المجاهدين بالسلاح أو المعلومات. ولقد استفاد أيضا من شرف الجهاد أولئك الذين التحقوا بصفوف النضال في أواخر 1961 لما لاحت في الأفق بشائر الاستقلال، ومنهم من كان شارك في معارك ضدّ المجاهدين مثل معركة مليكة حيث كان قادتها فرنسيون، أمّا الجنود فمن الجزائريين وأبناء المنطقة.

وهكذا كان حشر وإدماج لإخوانهم في حين حرم الميزابيون من الاستفادة بمثل هذه الاعترافات ومن الأوسمة التي لا تزال توزع إلى اليوم أي بعد نصف قرن من اندلاع الثورة.

إنّ هذه الوضعية الحرجة سهلت الاتهامات العديدة التي أصبحت تستهدفهم حتّى عقدتهم وعقدت بالخصوص أبناءهم الذين لم ينفكوا يسألونهم عن ذلك وبإلحاح. فلم تكن لتجدي الأعذار المقدمة ولا التبريرات ولا التفسيرات المتعددة حول ما اكتنف عملية الاعتراف بعظيم مشاركتهم، بوطنية وإخلاص في الثورة المباركة، وفي كثير من النواحي التي تواجدوا فيها. وحقّا لقد كان هذا شأنهم وشأن آباءهم وأجدادهم وفي كلّ الحقب والفترات العصيبة التي عرفتها الجزائر، عمل بجد وإخلاص، وفي السرية والحذر التام، ابتغاء وجه الله ونصرة للوطن.

ومع الاستقلال، وبسط جبهة التحرير الوطني نفوذها كحزب وحيد، منظّر ومسيّر وحاكم للبلاد، برز استحواذ آخر عليه لنفس الطائفة، وإقصاء مقصود للميزابيين -إلاّ قليل ممّن لم ولا يمكن تجاهله- وذلك بنفس الدعوى، أي عدم المشاركة في الكفاح الوطني.

ومعلوم أنّ كلّ من ولد قبل 1942 كان لزاما عليه أن يثبت نظافته إبّان الثورة ليتمكن من الانخراط في الحزب ويظفر بالتالي بالترشح للمناصب المختلفة، إن على مستوى البلدية أو الولاية ثمّ بعد ذلك للمجلس الشعبي الوطني.

وإذا ما أَضفنا إلى ذلك التوجه الرسمي آنذاك للدولة والحزب وهو الاشتراكية أو النزعة التقدمية كما كانت تدعى، فإنّنا نفهم مدى الاتهامات التي رمى بها المستحوذون على زمام الأمور إخوانهم الميزابيين مع الأسف. إنّهم كانوا ينعتونهم بالرجعيين وبالبرجوازيين والرأسماليين لما كان يشاع عنهم أنّهم غير راضين بالاشتراكية لأنّها مقتبسة من الأنظمة الشيوعية التي تحارب الدين أساسا، ذلك لأنّ لهم أملاكا، وأنّ لهم من الحركات التجارية والخدماتية الكثير، على عكس إخوانهم المتساكنين الذين كانوا، حقا في بداية الاستقلال أقل منهم يسرا، مع أنّ الذين كانوا منهم أثرياء ومتمولين كالميزابيين أو أكثر، لم يقع إقصاءهم لا من الحزب ولا من المناصب. وللحقيقة والإنصاف كان الميزابيون أقرب إلى النظرة الاجتماعية في حياتهم وممارساتهم لما يعتمدونه من تكافل اجتماعي وتضامن أسري أكثر فعالية من الذين يدعون الاشتراكية ولا شيء من سلوكا تهم يزكي ذلك.

وإلى جانب كلّ هذه النعوتالمثبطة والمعقدة كانت التحالفات تعرف تشكيلا تلو التشكيل، تبعا للمصالح والظروف والملابسات السياسية. وإذا ما تتبّعـنا عن كثب تطورها منذ فجر الاستقلال إلى استحداث الولاية سنة 1984 يمكننا تصنيف ذلك كما يلي:

¨       غداة الاستقلال كان التكتل على أساس كتلة الشعانبة الذين هم من متليلي أو جاؤوا منها واستقروا في سهل وادي ميزاب، وكتلة الميزابيـين التي كانت تضم كلّ الآخرين بما فيهم بني مرزوق والمذابيح ممّن سكن منطقة غرداية والضاية التي كانت جزءا من بلدية غرداية.

¨       وعند إعادة هيكلة الحزب حوالي سنة 1968 برز توجه جديد تقتضيه المرحلة لضم أكير عدد إلى صف الشعانبة نظرا للأبواب المفتوحة أمام عدد جديد هام سينضم إلى صفوف الحزب، فأضحى التكتل على أساس العرب وبني ميزاب، لينضم هكذا كلّ من بني مرزوق والمذابيح إلى الشعانبة ليكونوا كتلة أكثر عددا لمواجهة العدد الذي قد يلتحق بالحزب من غيرهم، وذلك دوما للتصدي لهم واستعدادا للترشيحات وغيرها.

¨       وعند إنشاء الولاية سنة 1984 في غرداية وقدوم عدد هام من الموظفين والإطارات إليها من باقي مناطق القطر، تطور التكتل ليصبح على أساس مالكي وإباضي ليقوى الصفّ الأوّل بالوافدين لأنّهم ليسوا إلاّ من المالكية، ويتمّ حصر الصف الثاني في الإباضية وهم نفس الميزابيين.

إنّ هذا التكتيك قد أتى مع الأسف أكله خاصّة وأنّ اللهجة والتقاليد والسلوكات فيها ما قد يعين على هذا التمايز، ويجعل الكتلة الأولى التي تشكلت في الختام أكثر تقاربا بينها ومتمايزة عن الكتلة الإباضية. ولم يشذ عن هذا حتّى بعض كبار المسؤولين في القطاعات المختلفة، والحال أنّهم للجميع ولا حق لهم في الميل إلى طائفة دون أخرى على أساس عاطفي أو غير موضوعي لأنّهم يمثلون السلطة وهو ما يوجب العدل في المعاملة مع كافة المواطنين.

لقد كان من بين الأهداف المتوخاة كما أسلفنا السيطرة على هياكل الحزب ومن ثمّ التحكم في الترشيحات لمختلف المجالس والهيئات. وبالفعل لم يسمح بالترشح للأقلية من المناضلين الميزابيين إلاّ لمن هو ضعيف نوعا ما أو لا يحرك ساكنا، أو من الأتباع إن لم نقل من الأذناب. وكلّ عنصر حيوي، له مقدرة وجرأة على منافسة المسؤولين آنذاك وبخاصّة في الحزب، كان مصيره الإقصاء تحت أيّ ذريعة ولأتفه الأعذار. ولقد كانت الهياكل الحزبية تحرص في تشكيل القوائم المقدمة للانتخاب على إقحام كلّ من تتأكد منه أن سيكون أداة طيّعة لقضاء المآرب عند تسلّمه المهام بعد الفوز في الاستحقاق.

ونظرا لكون أغلبية الأصوات عند الميزابيين وأنّ تصويتهم كان يتّسم بالكثافة والانضباط فقد كان المسؤولون في الحزب يضعون عددا محدودا منهم ليبقوا على عدد من المقاعد للمتساكنين. و عبثا حاولوا كذلك اختيار عناصر من الميزابيين مغضوب عليها في المجتمع أو حتّى من النساء، فلم ينجحوا في مسعاهم بل بوغتوا بالتصويت عليهم على مضض ليكملوا القائمة المطلوبة بأضعف العناصر، تعبيرا عن عدم رضاهم على القائمة المفروضة عليهم بل وعن الاحتقار الذي غدوا ضحايا له.

إنّ هذه التصرفات من طرف المسؤولين في الحزب كانت ولمدة طويلة عدائية تجاه من يشتم فيه نشاط أو جرأة في طرح القضايا الحسّاسة، فلم يسمح لأيّ من الميزابيين بالإشراف على منظمة من المنظمات الجماهيرية التابعة للحزب. وفي شبه ترضية وعمل تكتيكي أسندت أمانة الاتحادات المهنية لهم، نظرا للعدد الهام من الإطارات المتواجدة فيها، وعدم حساسيتها في المجال الحزبي. وبعد افتضاح الأمر، وفي محاولة محتشمة، أقحم في مكتب المحافظة للحزب عنصران مسالمان، واحد عن المصلحين وآخر عن المحافظين. ونظرا إلى أنّ التأثير الفعال للحزب بدأ ينقص ،لم تأت هذه الإستراتيجية أكلها، خاصّة وأنّ الأوّل قد توفي في حادث أليم وهو في مهمّة حزبية إلى عاصمة الجنوب ورڤلة.

لقد عانى الميزابيون كثيرا من العناصر التي استحوذت على الحزب ومن مواقفهم التهجمية في مجالات عدّة، فلم تسلم من ذلك لا اللهجة المحلية ولا كتابات العناوين بها، ولا الطاقية البيضاء التي اشتهر بها أبناء المنطقة، ولا السراويل التقليدية التي يفضل لبسها عناصر الكشافة الإسلامية الجزائرية، إلى غير ذلك من المضايقات التافهة التي تنم مع الأسف عن نوايا ضعيفة، القصد من وراءها إخضاعهم والسيطرة عليهم، وبعبارة مجملة تعقيدهم لصدّهم عن منافستهم أو احتلال مراكز ربّما هم أحرى بها منهم وأجدر.

لقد توالت هذه التعاملات، ولا تمر قضية من القضايا الهامّة إلاّ وحاولت نفس الأطراف استغلالها بما يعزّز سيطرتها ويزيد في استفزاز إخوانهم، ودائما بنفس الخلفيات والأغراض.

وللتوضيح نتطـرق إلى بعض القضايا:

لعلّ أهمّها هي الثورة الزراعية وتطبيقاتها. وبالفعل فإنّ بداية الإجحاف كان في تحديد عدد النخيل والدخل الأدنى لإخضاع المواطنين المالكين أو العاملين للتأميم. إنّه تسعة عشر نخلة وتسعة آلاف دينار.

أما الغبن الكبير فهو في تحديد عدد النخيل كما سبق ذِكره، وكأنّنا في ناحية من النواحي المنتجة بقوة وكثرة ووفرة  للتمور، وبالتالي ذات طابع نفعي واقتصادي، يدر دخلا وربحا معتبرا على أصحابها، والحال أنّنا في منطقة مما تسمى بالواحات.

إنّ الواحات عموما وفي غرداية خاصة هي أشبه ما يكون بركن للراحة والاستجمام، ولمّ شمل العائلة الذي لا يمكن أن يتحقق إلاّ هناك، كما أنها مكان لقضاء مآرب كثيرة مثل الغسيل العائلي، وتربية النشىء والرعيل الصاعد على خدمة النخيل ومحاولة الحفاظ عليها.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ الدارس لأوضاع مثل هذه البساتين الواحاتية الصغيرة المساحة، والمشتملة على مساكن بسيطة، تشكل في الحقيقة عبئا، فهي بالتالي أبعد ما تكون عن الفائدة والاستغلال، بله المردودية الاقتصادية. ولولا الإمداد الذي يأتيها من مداخل أخرى، ولو بسيطة، من النشاطات الأخرى خارج المنطقة، لَما تمكن أصحابها من الاستمرار في إحياءها وصيانتها والمحافظة عليها.

ومن الناحية المعنوية تشكل مثل هذه القطع في الواحة إرثا ثمينا، ورمزا يسعى مالكوه للحفاظ عليه ولو أدّى بهم إلى الاستدانة. ولا يتصور أي كان أن يتخلى عنه مهما كلّفه ذلك من أتعاب. فمجرد استراحة الأهل ولمّ الأبناء فيها وعدم تركهم يتسكعون في الطرقات، والفرحة التي تغمر الجميع بممارسة بعض الأشغال فيها، وجني بعض الثمار والتمور من طرفهم رجالا ونساء وأبناء، كلّ ذلك يعتبر أسمى مظهر للسعادة والغبطة التي تنسي كلّ الأتعاب والهموم.

ولأجل ذلك و غيره، يعتبر التأميم لمثل هذه البساتين والقطع الصغيرة والمشتملة على هذا العدد الضئيل من النخيل ذي المردودية المتفاوتة، تبعا لنوعيته، صدمة حقيقية، وتجريدا من أعزّ الممتلكات رغم تواضعها. وبالفعل فقد أدّت تلك التأميمات بالكثير إلى الإصابة بأمراض مزمنة وصدمات قلبية أودت بحياة البعض منهم مع الأسف .

ولقد اعتبر مالكوا هذه الواحات وأغلبهم من بني ميزاب، أنّ هذه العملية كما تمّ تطبيقها مغرضة، استهدفتهم كتصفية لبعض الحسابات، خاصّة وأنها أسندت في الاستفادة إلى من كان يتربص بهم ويتوعدهم، فصدقت هكذا الإجراءات الإدارية ما كان يتقول من قبل. وعبثا حاول كلّ من شملته العملية أن يطعن أو يحتج لضعف مستوى دخله، رغم ما حدّد بتعسف كما سبق ذِكره. وهكذا مسّت العملية الكثير ظلما، وكأنّ المنطقة منطقة إنتاج. ولم تراع فيها حتّى نوعية التمور إذ الفوارق شاسعة بين الواحدة والأخرى.

وإضافة لهذا هناك الكثير ممّن تصدى للفلاحة وحاول بمجهودات جبّارة إحياء الواحة، أو إعادة غرس أنواع من النخيل، لكنّه قد صدم كذلك بالتأميم لعدم استيفاءه المستندات القانونية، نظرا لضعف الإدارة آنذاك وعدم قدرتها على التحكم في الأوضاع الإدارية أمام مثل هذه الحالات المستحدثة.

إنّ كلّ هذه الممارسات وما صاحبها من غطرسة وتسلط من طرف الإدارة والهياكل الحزبية وضباط الثورة الزراعية، قد زاد إحباط المواطنين الذين لم تكن لهم مقدرة على مواجهة السلطات ومختلف وسائلها المستحكمة. هذا وإنّ محاولة التصحيح لبعض الأوضاع بعد مدة قد اصطدم بالحالات المستعصية التي أفرزتها التطبيقات المجحفة، فلم تستطع الجهات المعنية أن تعيد الأمور إلى نصابها والأملاك إلى أصحابها، فازداد الشعور بالحڤرة والحيف.

وبعد هذه العملية المؤسفة جاءت قضية الأراضي الصالحة للبناء والغير مستعملة، لضمها في الاحتياطات العقارية لتشكل مصدر آخر للتسلط والتصفيات الظالمة. ونظرا إلى أنّ المالكين لمثل هذه الأراضي هم الأغلبية من بني ميزاب فإنّ استهدافهم كان بنفس الغطرسة والتسلط، فنال المعنيين كثيرا من التجاوزات في التطبيق. ولم تراع في ذلك حتّى ما كان يسمى بالاحتياجات العائلية المعفاة من الإدماج.

لقد عرفت المنطقة قلاقل بسبب هذه الممارسات وأدخل من أدخل السجن، ولم تهدأ الأمور إلاّ بعد اتخاذ السلطات المحلية لبعض التدابير، مثل بناء مؤسسة تربوية تكون حاجزا وفيصلا بين المتنازعين المتصارعين. وبالفعل فقد استغلت هذه الظروف من بعض المتساكنين للسطو على الأراضي البيضاء لبني ميزاب بمختلف الدعاوي مع الأسف، ممّا أبان عن سوء نية مبيتة، وتواطؤ محلي من بعض السلطات، فتركت هذه العملية آثارا بليغة ورسخت بدورها الشعور بالحيف والتسلط، واستغلال النفوذ، والتعسف في تطبيق القوانين.

إنّ هذه التصرفات والمضايقات، وهذه السلوكات بما فيها من البيزنطية أحيانا، كانت مصدر قلق وضجر وبخاصّة لدى الشباب، إلى درجة أنّها قد عقدتهم، فجعلتهم ينظرون إلى السلطة ومن يمثّلها أو يدعي ذلك بنظرة السخط والازدراء. وعبثا حاول عقلاء المنطقة وأعيانها التمسك بالرزانة والاعتدال أمام كلّ العناصر المغرضة، ذلك أنّ التراكمات بدأت تفعل فعلتها، وجعلت الشباب يميلون إلى التطاول على آبائهم وكبارهم، ويرون في مسالمتهم ضعفا واستكانة، وخوفا لا مبرّر له، خاصّة وأنّهم تأثروا بما عايشوه في معاشرتهم الكثير من الشباب في الجامعات والميادين الاقتصادية، وبما تفتحت عليه أعينهم في صفوف الخدمة الوطنية، واقتبسوه من إيجابياتها وسلبياتها.

ومع التعددية والتفتح السياسي تطور السلوك الشباني، ففكر بعضهم في الانخراط في كلّ حركة يمكن أن تكون مناوئة للتيار المنحاز إلى الحكم، سواء الإسلامي المعتدل آنذاك، إذ كان الأقرب إلى ميولهم وتربيتهم الأصيلة، أو البربري الذي يمكن أن ينفردوا فيه بالتواجد، ولا يزاحمهم فيه إخوانهم المتساكنون، رغم الأفكار والميول اللائكية التي يتبناها هذا الاتجاه، والتي تعبّر عن اعتقادات ونظريات إخوانهم القبائل، والمعروفة بالعداء عند المتطرفين منهم لكلّ ما هو إسلام أو عروبة على الخصوص.

ومن جهة أخرى حاول بعض المسؤولين المحليين استغلال هذه الظاهرة الاستنكارية لدى الشباب، وبخاصّة أولئك الذين يعتبرون أنفسهم مهمشين بفعل اقترافهم لبعض المخالفات أو خروجهم عن طاعة أعيانهم، فشجعوا انضواءهم ضمن جمعيات متعددة وللأحياء وللنشاطات المختلفة، فأضحت هذه الواجهات تستغل لدعوتهم لحضور اجتماعات والمساهمة في عمليات، تستهدف هذه السلطات من وراءها إضعاف جانب الأعيان والوجهاء من جهة، وبلوغ مآربها ومحاولة السيطرة على الأوضاع حسب زعمها من جهة أخرى. ولقد كانت لهذه المبادرات نتائج سلبية على المجتمع إذ أصبحت هذه العناصر الغير خاضعة لأعيانها والطيعة لهؤلاء المسؤولين طبعا، تشعر بقوّة متنامية تعتد بها لتتطاول على أعيانها، وتقوم بأعمال لا يرضون عنها، إن لم نقل إنّها استفزازية ومتحدية للتوجه العام الهادئ والهادف لعقلائهم.

وبالفعل لقد تمّ استغلال فكرة المجتمع المدني والتسهيلات الممنوحة لإنشاء الجمعيات في مختلف المجالات، فظهرت إلى الوجود وجوه مغمورة لها من الطموحات والأغراض والأهداف ما أذكى فيها نشاطا وحيوية استغلها هؤلاء المسؤولون لإبراز زعامات شابة حسب ظنّهم، يمكن أن تكون بديلا للزعامات المحلية التقليدية، فأغدقوا عليها الكثير من الإعانات المادية، كما حظيت بالدعم المعنوي، ممّا جعلها تمعن في تحركاتها بل وتعمل جاهدة لإرضاء مموليها وأرباب نعمها.

لقد وجدت هذه الجمعيات في المجالات المفتوحة لها فرصا سانحة للعمل والتحرك وابتغاء الزعامة فكان لكلّ ذلك آثارا توحي ظاهريا بتواجد مجتمع مدني بممثلين جدد، لكنّه في خاتمة المطاف نجد تضاربا وصراعا عقيما يضعف كيان المجتمع ويفرقه شيعا وطوائف بحيث تضيع المصلحة العامّة وتتبعثر الجهود فيتسلل كلّ من له نوايا غير حميدة إلى الصفوف، يستغل الصراعات والتطاحنات ليكثر من الفوائد ويحقّق المزيد من المنافع للأسف.

أمّا فكرة إنشاء الجمعيات وكذا تشجيعها فهي في جوهرها من الخطوات الإيجابية لإذكاء النشاط في المجالات المتعدّدة التي يزخر بها المجتمع، وهي كذلك وسيلة مثلى للتكفل بانشغالات الشرائح التي تتكون منه، وإبراز الطاقات الكامنة بعد أن كانت محصورة في المنظمات أو تنظيمات محدودة المبادرات والفعالية. لذا فإنّ محاولة استغلالها حسب الأهواء والنوايا المبيتة لهي التصرفات التي يعاب عليها بعض المسؤولين، وهذا ما وقع في غرداية، وعمل عليه هؤلاء لإحداث الشقة بين بني ميزاب وإخوانهم المتساكنين، للعب دوما على الحبلين واستدرار الفائدة من الطرفين.

هذا ولقد كان بين المسؤولين الذين تعاقبوا على المنطقة من فكّر كذلك في إضعاف سلطة الهيئات العرفية من أعيان ومجالس مختلفة لكي يتمكن من بسط نفوذه وفرض آرائه وتطبيق القوانين حسب زعمه، ظنّا منه وخطأ أنّ مثل هذه الهيئات تشكل عائقا دون ما يصبو إليه ويطمح إلى تحقيقه، في حين أنّها كانت وستبقى دوما حصنا منيعا دون تفكك عرى المجتمع، وملاذا لكلّ المسؤولين حين تشتد عليهم الأزمات، وتنسدّ أمام وجوههم السبل، ويصعب عنهم حلّ مشكل له اتصال بالمجتمع، لأنّ لهالديه كامل التقدير والاحترام، ومكانة لا تعوّض وإن ضعفت أحيانا، كما أنّها تتمتع ببعد النظر وسداد في الرأي ولو لم يهتد البسيط إلى إدراكه. فكم من حادثة أو أزمة انفرجت ووجد لها حل ولو جزئيا بفضل تدخل هذه الهيئات والاعتماد على الأساليب التقليدية الرصينة العريقة، ولمّا ثبت لدى عموم المواطنين من قناعة واعتراف بنضج حلولها وسداد ما تذهب إليه، نظرا للحنكة التي أكسبتها لها التجارب عبر الزمن .

لذا فإنّ اللجوء إلى افتعال الصراع الداخلي ومحاولة إبراز طائفة لتصبح يوما ما بديلا للهياكل العرفية العريقة لمن أفدح الأخطاء التي وقع فيها بعض المسؤولين سواء عن جهل لحقيقة الأوضاع الاجتماعية أو محاولة لنسف النسيج المتماسك منذ القدم، تطبيقا لنظريات اجتماعية أو سياسية خاطئة مع الأسف، في حين أنّ حصافة الرأي وبعد النظر والحكمة تكمن في التعامل الذكي مع كلّ الأوضاع المتواجدة، والتي أثبتت التجارب سدادها ونجاعتها، وكان الأفضل هو السعي إلى إشراكها بنصح ودون المراوغة لكسب تفاعلها والتزامها وتجندها للعمل على تحقيق المصالح العليا للوطن والمواطنين، وإبطال مفعول كلّ الانحرافات والوقوف أمام كلّ الانزلاقات، خاصّة وأنّ هذه الهياكل والرجال المخلصين فيها لا يرمون إلاّ لمثل هذه المثل العليا والأخلاق السامية والسلوكات الحضارية، رغم ما أفرزته التقلبات والتطورات والتأثيرات والبيئة المحيطة من نتوءات وتصرفات غريبة عن المنطقة وحسّها الديني وتربيتها المدنية وشعورها الوطني.

أجل إنّ ماعرفته الجزائر عموما وميزاب جزء لا يتجزأ منها من تطورات مختلفة لممّا يثير الدهشة حقًّا، لكن ما يسمّى بالتقدم والحضارة قد زحف بالإيجابيات والسلبيات. والخطأ كلّ الخطأ أن يحاول أيّ كان أن يجاري السلبيات أو أن يستغلها لضرب الإيجابيات، مهما بدت متحجرة، لأنّ ذلك يعدّ بمثابة الجري وراء سراب خلاب، لا جدوى ترجى منه، وهو بالتالي هدم لبناء قديم يصون المجتمع قبل بناء هيكل جديد وعصري يمكن أن يأويه.

إنّ ظاهرة التنكر للقديم الناجح في الماضي، بدعوى العصرنة والتقدم دون التحصين للجديد والإعداد له بجدية وحزم ونية صادقة، لممّا يؤسف له، إذ قد يتلف رصيدا ثريا كان أحرى بنا أن نعالج بعض النقص الذي يعاني منه، محافظين على اللب الثمين، نزكيه ونطوره حتّى يكون لتقدمنا محتوى حضاري يتماشى مع التطور السليم. أمّا التفريط فيه واللهث وراء قشور الآخرين فهو عين الخطأ ومكمن الداء وسبب الخراب الذي آلت إليه أخلاقنا وتقاليدنا وعاداتنا العريقة وسلوكنا المدني الذي كان رغم ضعف مستوانا العلمي رصينا وحضاريا حقًّا .

وإلى جانب كلّ هذه التصرفات وتداعياتها برزت فكرة التوازن بين الطائفتين كما سبقت الإشارة إليه كأسلوب جديد حاول بعض المسؤولين اعتماده للعدل بينهما حسب زعمهم، لكن تصرفاتهم أفصحت عن ضعفهم في مواجهة الحقائق واتخاذ ذلك ذريعة فقط. فكم من أخطاء ارتكبت باسم هذه التوازنات في قضايا متعددة إذ تعطى الأفضلية لطرف دون آخر فيغدو طرف ما ضحية. وأمام الحرج الذي يجدون أنفسهم فيه فإنّهم كثير ما يلجؤون إلى استبعاد كلا الطرفين ليستنجدوا بأشخاص من خارج الولاية باعتبارهم عناصر محايدة، فتكون الانعكاسات سلبية على الطرفين، وهذا ما عمّق الشعور بالغبن وأدّى بالطموحين لاعتلاء المسؤوليات إلى نوع من السخط على المسؤولين المحليين. ولقد ظهر ذلك جليا في إسناد الكثير من المناصب إلى غير أبناء الولاية بدعوى ضرورة ضمان الحياد داخل المصالح، واستبعاد المحاباة والانحياز الذي يمكن أن يطغى على أبناء المنطقة عموما، فأبعدت عناصر كفأة كانت ترى في الفرص المتاحة مناسبة للحاق بالوظائف المتوفرة محليا، ممّا زاد من غضب الشباب بل وفسّروه كمحاولة لجلب أفراد يكونون منفّذين لمراميهم، وأدوات طيّعة في أياديهم لقضاء مآربهم أو الاستفادة من امتيازات، قد يندّد بها أبناء المنطقة نظرا لمعرفتهم الدقيقة بالأوضاع بحيث لا يمكن لأيّ كان أن يمررها دون افتضاح. ولقد امتدت هذه التصرفات حتّى إلى مجال الاستثمار حيث تمتع الوافدون من خارج الولاية بتسهيلات في حين تعثرت الملفات التي قدّمها القاطنون نظرا للتعقيدات البيروقراطية التي يتعرضون لها من طرف المصالح الإدارية والتقنية. وهذا من شأنه كذلك المساهمة في الإحباط وتعميق الشعور بالاستخفاف والاحتقار.

إنّ كلّ ما حاولنا ذِكره كمعطيات هو بعض ممّا أثّر كثيرا في تصرفات الشباب بل ودفعهم إلى اعتماد أسلوب العنف في ردود أفعالهم أمام ما اعتبروه احتقارًا مفضوحا. وهو ما ظهر جليا بمناسبة أحداث غرداية الأخيرة خاصّة وأنها تزامنت مع قرب شهر عظيم شهر رمضان المبارك الذي كان أحرى بكلّ مسؤول أن يتخذ كافّة الإجراءات لضمان أداء هذه الشعيرة في أحسن الظروف وأهدئها.

أمّا عن السلوكات الجديدة والتي تتّسم بالعنف وتخريب الممتلكات العمومية، ممّا لم نعهده سابقا في المنطقة، فمردّها إلى الاقتباس مما جرى في مناطق أخرى من الوطن ومواقف السلطة المتردّدة منها، إذ بذلك رسخت الاعتقاد أنّها الطريقة المثلى لانتزاع حق أو الحصول على تنازل أو إسماع صوت أو إخضاع مسؤول أو حتّى خلعه أو تحويله.

وفي هذا المجال تأتي في المقدمة أحداث منطقة القبائل منذ سنة 2001 والتي لا تزال تشكل مرجعية وسابقة مع ما في كلّ حالة من خصوصية مثل أحداث غرداية .

وبالفعل لقد حاول أبناء منطقة القبائل تصدير تجربتهم إلى المناطق الهشة، مستغلين كلّ فرصة لإثارة القلاقل، أو دفع من تضرّر لسبب أو آخر للبروز بمثل الوجه الذي ظهروا عليه، ليضفوا مصداقية أكبر على حركتهم، وإعطائها بعدا اجتماعيا واقتصاديا أكثر، مستبعدين هكذا عن حركتهم الطابع الجهوي ذي النعرة القبلية القبائلية.

إنّ ما كشف عن تلكم الخلفيات هو ما صدر عن أبناء منطقة القبائل من إعانة مادية رفضت، ومساندة معنوية كشفت عنها برقية التأييد الصادرة مع الأسف من رئيس المجلس الشعبي الولائي لبجاية، بالإضافة إلى تكثيف الجهود لتجنيد محامين وأقلام للوقوف إلى جانب كلّ المتورطين في الأحداث، وكذا إقحام المنظمة التي ينتمون إليها وهي لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان، والقريبة من توجهاتهم في كلّ قضية لكسب الأنصار واستعطافهم.

فلئن نجحوا نوعا ما في بعض الجهات فإنّ الكثير من الأحداث التي وقعت سواء تلك التي لهم فيها يد أو غيرها فقد تمت السيطرة عليها وهدأت إلاّ ما بقي في منطقة القبائل من تشبث بما يسمى أرضية القصر.

هذا وتبقى طريقة الاحتجاج المستعملة مثل سدّ الطرقات وإحراق العجلات ثمّ تحطيم الممتلكات العمومية وبخاصّة تلك التي لها علاقة بمصالح المواطنين مثل الضرائب والبريد والكهرباء والغاز والماء، تبقى هي السائدة. فقد اتّسعت رقعة استعمالها وأضحت الوسيلة المعبّرة عن سخط المواطنين. أمّا السلطات فإنها تحاول دوما أن تهدأ الأوضاع في أوّل الأمر لكن عند تصعيد أعمال الشغب تتصدى لها ولو بوسائل محتشمة لتفادي الاصطدامات الدموية، إلاّ أنّها في الآونة الأخيرة تبنّت نوعا من الصرامة إزاء مثل هذه التصرفات، فلم تعد تسمح بها ولا بالتجمهر الغير مرخص له، بل وجرّمت مرتكبيها وقدّمتهم إلى العدالة حتّى تضرب على أيدي العابثين بالممتلكات العمومية وبأملاك المواطنين.

وخلاصة القول إنّ أحداث غرداية وما اكتنفها قد أفصحت عن اختلالات متعدّدة، منها ما يرجع إلى التراكمات السلبية التي لمختلف السلطات الحزبية سابقا والإدارية دور ومسؤولية كبيرة فيها، إذ عمقت في نفوس الشباب خاصّة شعور الإجحاف والغبن والاحتقار، ومنها ما يرجع إلى الجو الجديد الذي أفرزه التفتح السياسي في الجزائر. فلئن كان ما ذكرناه وغيره قد يفسر تلكم التصرفات فإنّه لا يمكن أن يبررها أبدا.

ولقد ظنّ بعض الشباب كذلك أنّ الفرصة مناسبة لتغيير جذري في سلوكات كبارهم، والثورة على تقاليدهم، محاولين محاكاة الأنماط التي تفتحت عليها عيونهم هنا وهناك، إنّ هذا الصراع الخفي الظاهر هو الذي أثّر كثيرا على سير الأحداث في غرداية ومختلف تطوراتها. إنّه هو الذي سيظل مؤثرا إلى فترة بعيدة على الأوضاع، كما أنّه سيلقي بظلاله على الاستحقاقات المقبلة نظرا لاستغلاله السياسوي من عدّة أطراف، ولو أنّ المجتمع المحلي في غرداية لم يتطبع بعد ولم ينسجم مع التقلبات المعروفة هنا وهناك، وأنّه لا يزال يرى في أغلبيته أنّ الطرق المرنة والهادئة في مواجهة الأزمات وحلّ المشاكل، ما تزال هي المجدية والناجحة، لأنّها أقرب إلى قيمه الدينية السمحة، وتربيته المدنية الحضارية التي أثبتت حتّى بمناسبة الأحداث الأخيرة في غرداية أنّها ناجعة وفعّالة حقًّا. وبالفعل لقد أثار تدخل العقلاء وأسلوبهم في معالجة الوضع كامل الإعجاب، ودفع بمن أخطأ إلى الإذعان إلى الحقّ، كما أنّ الحكمة والرصانة التي يعالجون بها مختلف المشاكل قد أدّت في كثير من الأحيان بالأطراف المتنازعة إلى الصلح، ولو على حساب طرف لأنّ المصالحة تقتضي فيما تقتضي أن يتنازل كلّ طرف عن بعض حقوقه.

وفي الختام يجب أن تستقطب أحداث غرداية أنظار مختلف الجهات الرسمية منها والشعبية لتحليل دقيق لها، يأخذ بعين الاعتبار كلّ المعطيات لاستشراف الغد بكلّ ما يمكن أن ينطوي عليه، حتّى تخف وطأة الأحداث المستقبلية إذا لم يمكن التغلب عليها، والسيطرة على كافّة أسباب وقوعها، ومنع استغلالها، ذلك أنّ منطقة غرداية بخصوصيتها لهجة ومذهبا والجزائر عامّة مستهدفة.

 

العطـف يوم: 17 أكتوبر 2004م

 

 فهرس المقالات :

 

- مقدمة

 

- حول بعض الأوضاع المحلية

 

- حول أحـــداث غردايـــة

 

- حــــول فتنة بريـان

 

- حول فوضـــى القـــرارة

 

- حول أحداث غـــرداية الأخيرة

 

- الخـــاتمــــة

 

- الخلاصة: بعض الأفكار الرئيسية والهامّة التي وردت في الكتيّب

 

 

 

إضافة تعليق