أنت الآن هنا: الصفحة الرئيسة - أحداث ومحطات - فتنة غرداية ديسمبر 2013 - حــــول فتنة بريـان

أحداث ومحطات

الأحد 21 ديسمبر 2014

حــــول فتنة بريـان

عبدالوهاب بن الشيخ عبدالرحمن بكلي-وزير سابق

قد يعتبر أنّ هذا المقال قد أتى متأخرا نوعا ما، ذلك أنّ الظروف الصحية الشخصية خاصّة هي التي كانت السبب الرئيسي. لكن الأحداث المريرة التي عرفتها مدن المنطقة تترك المتتبع لها يبقى مشدوها لِما يلاحظ أنّ افتعالها كان يتزامن للأسف مع مناسبات حسّاسة عزيزة ومحترمة بل وبعضها مقدسة مثل رمضان المعظم أو المولد النبوي الشريف، وهذا ما يترك الدارس لمجريات الأمور يشك ويطرح أكثر من سؤال حول الدوافع الحقيقية وعن المقاصد والأهداف من وراء كلّ هذه القلاقل والتصرفات المريبة إزاءها.

إنّ كل هذه المشاعر هي التي حدت بي إلى محاولة تناولها بالحديث والتعليق عليها حسب وجهة نظري. فكان هذا المقال:

 

سبق لي وأن كتبت مقالا حول أحداث غرداية حاولت التعرض فيه إلى ما عرفته المدينة آنذاك من شغب وأعمال مؤسفة وتخريب طال الممتلكات العامّة والخاصة والأشخاص، وهو ما اعتبر حقًّا مذهلا في منطقة عرفت قديما بهدوئها وسلوكاتها الحضارية والتعايش السلمي بين مختلف مكوّنات سكانها.

وبحثا عن الدوافع والأسباب القريبة والبعيدة التي قد يكون لها دخل ذكرت بعض المحطات التي أعتبرها هامّة وهي التي كانت وراء تراكم الإحباطات فأدّت إلى الغضب فالانفجار والردود العنيفة والمؤسفة حقا. وفي آخر المقال رأيت من الواجب إلفات النظر إلى ما اعتبرت وأعتقد أنّه خطر محدق بالجزائر عموما وبالمنطقة خاصّة نظرا لخصوصيتها لهجة ومذهبا وذلك بالتكفل بمثل هذه الأوضاع الخاصّة والحسّاسة حتّى لا يتخذ أنبل مكونات الهوية الوطنية وهو الدين الإسلامي مفجرا للأوضاع الهادئة في حين أنّه كان عبر السنين الإسمنت الذي رصّ صفوف الشعب الجزائري إذ لم يكن لمختلف المذاهب الدينية أيّ صراع يذكر والحمد لله بل على العكس عرف تعايشها كلّ الازدهار، ولعل أنصع نموذج عرفه تاريخ الجزائر كان الدولة الرستمية.

لكن ومع الأسف وقعت أحداث أخرى مؤلمة في مدينة بريان بعد ذلك. فأضحى حقًّا بل وواجبا عليّ وأنا ابن البلدة أن أحاول الكتابة والتعليق عليها، خاصّة وأن أحد زملائي في لجنة التحقيق حول أحداث منطقة القبائل التي شكلها الأستاذ إسعد، وهو الأخ شريف بن ناجي أستاذ القانون بجامعة الجزائر، طلب منّي أن أكتب مقالا، مساهمة منّي حول هذه الأحداث، نظرا لكوني ابن البلدة ونائب سابق عن ولاية غرداية في المجلس الشعبي الوطني، وأعتبر كذلك أحد أعيان هذه المنطقة، فحاولت أن أسجل ذلك كما طلب منّي باللغة الأجنبية نظرا لأنّ النشر سيكون في المدونة السنوية لعام 2009 للمركز الوطني للأبحاث العلمية في فرنسا.

فلما صدر الكتاب رأيت من المفيد أن أنقل ما كتبت إلى اللغة العربية، وبعد ذلك سأحاول التعليق عليه بمزيد من المعلومات نظرا لأنّ القضية تطورت وعرفت أطوارا متعدّدة وهي إلى الآن معلقة مع الأسف.

 وبدون إطالة هذه هي الترجمة:

"قد اندلعت أحداث مؤلمة ومؤسفة في بلدية بريان الواقعة حوالي 45 كلم من مقر الولاية غرداية، وذلك عشية المولد النبوي الشريف (يوم 19 مارس 2008 ) وامتدت إلى 21 مارس من نفس السنة، وقد عرفت هذه الأحداث تقلبات بين شهر ماي وجويلية من سنة 2008م وإلى هذا اليوم (ديسمبر 2008) لا زلنا نشهد مناوشات تقع بين الفينة والأخرى، وسببها أساسا محرقة ألقيت بين رجلي امرأة كانت مصحوبة بأبنائها.وهكذا فإنّ بعض الشباب الإباضية الذين هم بربر ومن المالكية الذين هم من العرب اغتنموا هذه الفرصة ليتحامل بعضهم على بعض. وقد وقع التعدي على مختلف الدكاكين والديار وكذا النهب والحرق مع الأسف، ووقعت هناك تبادلات لرمي الحجارة وسجلت كذلك تعديات هنا وهناك. ومن جهة أخرى فإنّ التلاميذ قد حرموا من الالتحاق بأقسامهم لأنّهم كانوا مهددين ومعتدى عليهم. ولقد سجلت البلدة ثلاثة وفيات وكثيرا من الجرحى. وهكذا انتشر جو من الخوف والرعب في بلدة بريان، هذه البلدة التي كانت معروفة قبل اليوم بهدوئها وتعايشها الجدّ إيجابي.

وفي هذه الأجواء المشحونة ظهرت عبارات أو تعبيرات مختلفة وظهرت كذلك محاولات للتهدئة لكن مع الأسف لم تكن محاولات كلّ الأعيان الذين بادروا بمسموعة. وهناك محاولات أخرى بدأت بتدخل رئيس الحكومة آنذاك وهو المنسق لحزب جبهة التحرير الوطني، ثمّ جاءت محاولة للإخوان أعيان ورڤلة والأغواط لكن كلّ ذلك لم يجد نفعا، لأنّ السلطات الولائية أصرت على أن تتم التهدئة والتسوية على أيديهم. ومن جهة أخرى حاولت السلطات المحلية والمدعومة بقوى الأمن المتواجدة، حاولت وبذلت مجهودات لاستتباب الأمن لكن بقيت هناك مع الأسف من حين لآخر مناوشات تقع.

وفي خضم هذه الأوضاع الغامضة ظهرت مناشير من هنا وهناك لكن غير معروفة الهوية فنسبت بالتالي لهذه الجهة أو تلك إذ قد لجأت إلى هذا النوع من التعبير لأنّه كان صبًّا لجام الغضب وتعبيرا عن الكبت. والملاحظة الأساسية أنّ محتوى هذه المناشير لم تكن لبقة بل كانت عكس ذلك.

وبعد فترة من الأحداث، وما فيها من التهجمات على المحلات والسرقة والحرق فقد أصبحت بعض العائلات ملزمة بمغادرة منازلها لتستقر في أماكن أخرى أو في المدارس كملاجئ.

وقد كان المنتخبون المحليون وإلى جانبهم بعض العقلاء حاولوا تهدئة الأوضاع ولكن دون نتيجة تذكر.

 ولفهم هذه التصرفات لابدّ من الرجوع إلى الانتخابات المحلية الأخيرة (سنة 2007.) وبالفعل فإنّ الجو الذي كان موجودا كان متوترا تبعا لنتائجها التي أعطت الفوز لقائمة التجمع الثقافي الديمقراطي فأصبح لها رئيس في بلدية بريان، وهو ما فسّره الإخوة المالكيين الموالين لجبهة التحرير الوطني كإقصاء من طرف الإخوة الإباضية الذين دعموا قائمة التجمع الثقافي الديمقراطي خاصّة وأنّ أعداد المنتخبين كان متساويا مع قائمة جبهة التحرير الوطني، لكن عدد الأصوات أعطى الأولوية والفوز ورئاسة البلدية لهذا التجمع الثقافي الديمقراطي. وهذه الوضعية تذكرنا بالأحداث التي وقعت سنة 1990م غداة نجاح القائمة الحرة في الانتخابات المحلية ضدّ قائمة الحزب المحظور آنذاك جبهة الإنقاذ الإسلامية وعرفت إثر ذلك بريان أحداثا مثل هذه أدّت إلى وفاة شخصين مع الأسف.

 وإلى جانب ذلك يجب أن نذكر أنّ اختيار هذه القائمة للتجمع الثقافي الديمقراطي في بريان أو القائمة المنسوبة لجبهة القوى الاشتراكية لم يكن أبدا عن قناعة ولكنّه كتحدي لقائمة جبهة التحرير الوطني وليس لجبهة التحرير كحزب تاريخي. وفعلا إنّ حزب جبهة التحرير كان بين أيدي أناس فقدوا كلّ ثقة شعبية وسط المجتمع، وهذا نتيجة لهيمنة طويلة دامت مدّة تبعا لهيمنة هذا الحزب على الأوضاع آنذاك. وقد فقدوا كذلك الثقة لتصرفاتهم وتدخلاتهم في عدّة قضايا وبصفة مشبوهة مع الأسف. ويجب أن نلاحظ من جهة أخرى أنّ نفس الأشخاص ونفس الوجوه رجعت لتدعم مكاسبها وبالتالي أفقدت الثقة فيها ولم تنجح بالظفر برئاسة البلدية.

أمّا الأسباب العميقة القديمة هي: تردي الأوضاع المعيشية والبطالة ثمّ من جهة أخرى التطرف: التطرف الديني والسلفي من جهة الإخوة المالكية واللغوي الأمازيغي من جهة الإباضية. وهذه المعطيات يجب إضافتها مع الأسف لمفعول المشروبات الكحولية والمخدرات. هذا و يجب أن نشير إلى أنّ مختلف الوافدين من الشباب على بريان من بلديات مجاورة كان أملهم هو وجود عمل لدى الشركة الوطنية للمحروقات في حاسي الرمل التي تعتبر قريبة جدًّا من بريان. فوجود هذه العناصر إلى جانب البطالين من بلدة بريان كونوا فريقا من المتطرفين، ومنهم جندت عناصر ملثمة لزرع الفتنة والشغب مع الأسف دون التعرف عليها.

وربّما يجدر بنا الرجوع إلى ظاهرة التطرف الديني، فبالرغم من مجهودات الأعيان ومشايخ الإباضية الذين حاولوا تصحيح بعض الكتب المدرسية فإنّ الخطب السلفية التي كانت تلقى كانت تنفث سمومها مع الأسف، خاصّة وأنّها كانت تركز على أنّ الإباضية من الخوارج مع ما لذلك من النتائج السلبية وما لها من التأثير على النظريات السلفية المتطرفة بصفة خاصّة. وأمّا نتائج الانتخابات البلدية ونجاح قائمة التجمع الثقافي الديمقراطي وظهور تحرك جبهة القوى الاشتراكية في خضم الأحداث فقد اعتبرت كجرائم ضدّ النظام القائم وهذا خطأ لأنّ هذه الأحزاب كانت معتمدة بصفة رسمية.

ومن جانب آخر لقد عرفت البلدة جمودا شبه تام لمّا رفضت الهيئة التنفيذية للبلدية الجديدة أن تتسلّم الأمور من دون تحريات مسبقة، وهذا ما دفع بمناوئيها إلى اتّخاذ مبادرات لدى السلطات المحلية والعليا للتشكيك في مصداقية هذه البلدية الجديدة. وهنا يجب أن نشير أن سنّ المنتخبين الذين يعدّ أكثرهم من الشباب عديمي المعرفة والتجربة في مجال تسيير الشؤون العامّة بالإضافة إلى تدخلات أحزابهم دون الأخذ بعين الاعتبار المصلحة العليا للبلدية ظنًّا منها أن تدخلها هو لصالح إقرار نظرية الأحزاب من دون الأخذ بعين الاعتبار مستقبل المنطقة وفائدة البلدية.

وبخصوص المشبوه فيهم أو المتهمين بعد هذه الأحداث التي وقعت في بريان تجدر الإشارة أنّه يجب التفريق بين المتهجمين والسارقين ومرتكبي مختلف المخالفات والآخرين الذين اتّهموا باطلا بإذكاء نار الفتنة بإصدار مناشير. هذا وإنّ مختلف السلطات المحلية والأعيان والمنتخبين ما فتئوا يبذلون الجهود لإرجاع الهدوء لبريان ولكن الشباب المتحمسين كانوا يستغلون كلّ مناسبة لإظهار عدم رضاهم وموافقتهم بل كانوا يتمادون ويسعون لزرع الفتنة حتّى إنّ قوات التدخل التي اضطرت لتفريق التجمعات إلى حدّ استعمال الغازات المسيلة للدموع قد زرعت الرعب حقًّا.

ودائما في إطار البحث عن إرجاع الهدوء فإنّ السلطات والأعيان حاولوا وتدخلوا لدى المنتخبين الجدد لتغيير الهيئة التنفيذية التي يشرف عليها رئيس من حزب التجمع الثقافي الديمقراطي. ونتيجة لذلك فإنّ أحد الثلاثة الذين انتخبوا ضمن قائمة هذا التجمع التحق بقائمة جبهة التحرير الوطني وكذا اثنين من جبهة القوى الاشتراكية، وهكذا فقد سحبت الثقة من رئيس البلدية ليقع استبداله بأحد من هؤلاء الاثنين الذين التحقوا من الجبهة الاشتراكية علما بأنّ هذا العضو المنتخب كان من قبل رئيسا للبلدية لعهدتين.

إنّ هذه المحاولات ونتائجها قد تركت نوعا من الرضا لدى الشباب الذين كانوا خاصّة مساندين لهذه القائمة التي تعدّ تحديا كما أشرنا إليه، فاتجهت الأوضاع نحو الهدوء رغم ما بقي من بعض الأعمال التي تدل على أنّ عدم الرضا لا زال موجودا. هذا وإنّ تدابير الإخلاء أو الإفراج عن بعض المساجين الذين حوكموا، وبعد أن قضوا مدّة سجنهم، كانت مناسبة للشباب للتعبير عن عواطفهم لكن مع شيء من الاستفزاز.

وفي الخلاصة يمكن أن نقول إنّ هناك عناصر خارجة عن بريان أو عن الولاية قد تدخلوا، وحاولوا استدامة عدم الأمن وزرع الفتنة واستغلال الأوضاع مع ما في هذه التصرفات من تطرف ديني صادر من طرف السلفيين أو تطرف لغوي كان كرد فعل صادر من الأمازيغ كذلك.

لذا أضحى أكثر من الضروري رفع اللبس الذي وقع حول الإباضية ونعتهم بالخوارج وأن يقع توضيحه رسميا من الجهات العليا كما يجب كذلك أن يكون للغة الأمازيغية اعتناء واحترام لتفادي كلّ استعمال لها سياسوي. ومن أجل هذا أضحى كذلك من المستعجل أن تعطى لهذه التوجهات أهمية واعتبارا وأن تحظى النظريات التي توجد في وسط المجتمع، لا في بريان فقط وإنّما في مختلف جهات الوطن، أن تحظى برعاية خاصّة لأنّ الأهداف السامية لأيّ تطور وأيّ نمو لا يكمن في العيش الهنيء للمواطن فقط بل وفي حفظ قيمه كذلك، إذ يجب أن تكون الرائدة حتّى نضمن له مستوى حضاري محترم.

إنّ هذا الدور يجب أن يكون له اعتبار وتكفل من طرف العائلة التي تعدّ القاعدة الأولى ومن طرف الجهات المعنية وبخاصّة التربية الوطنية والثقافة والشبيبة والرياضة وكذا الشؤون الدينية. هذا وإنّ مختلف التحركات التي تعبّر عن عدم الرضا التي رصدناها هنا أو هناك تدل على وجود نقائص في هذه القطاعات مع الأسف.

لذا فإنّ بريان أو المناطق الأخرى لا ولن تجد هدوءها ولا صفاءها إلاّ لمّا تكون هذه الجوانب التي تهمّ المواطن الجزائري عموما مأخوذة بعين الاعتبار والجدّية وبصفة مسؤولة.

بعد الترجمة رأيت من الضروري أن أضيف لها بعض الإيضاحات والتعليقات والتعقيبات نظرا لأنّي لما كتبت المساهمة باللغة الفرنسية لتصدر في نشرية أجنبية، كتبتها كوزير سابق وتجنبت الخوض في الخلفيات السياسوية أو السياسية للأحداث، لكن لما ترجمتها إلى العربية رأيت أنّها ناقصة نوعا ما، خاصّة وأنّ الأحداث كما أسلفت قد تطورت وعرفت تشعبات، ومضت عليها مدّة زمنية.

لذا أريد أن أؤكد أوّلا وقبـل كلّ شـيء أنّه يجب أن نضع هذه الأحداث في إطارها المكاني والزمني أي في بلدة بريان وفي سنة 2008.

ففي ذلكم الحين كانت لي اتصالات مع بعض الإخوان الذين فكروا في تنظيم لقاء حول التقارب بين المذاهب محليا خاصّة وأنّه كانت آنذاك ظاهرة برزت وعرفت تطورا في العالم صاحبتها مساعي حثيثة تدعو في أوّل الأمر إلى التقارب بين الثقافات ثمّ تطورت إلى الدعوة إلى التقارب بين الديانات المسيحية واليهودية والإسلام، تجندت لها أقلام وشخصيات بارزة، فنشأت عن هذه التوجهات فكرة محلية للتقارب بين المذهبين خاصّة الإباضي والمالكي. فلما قصدني هؤلاء الإخوان وخضنا في الموضوع رأيت من المفيد أن أجري معهم تحويرا على العنوان، فقلت إنّي أقترح عنوانا للقاء وهو: التعايش بين المذهبين المالكي والإباضي، وليس تقارب. لأنّنا في منطقة فيها حقيقة تعايش شبه تام، وبالتالي منطقة ميزاب يجب أن تؤخذ كمثل في الدراسة للتعايش، لأنّ التقارب وقع منذ زمان، والآن نعرف حقيقة التعايش في أوسع معانيه.

وهكذا انطلقت الفكرة وبدأت التحضيرات، وفجأة طرأت الأحداث المؤلمة والمؤسفة في بريان كما أسلفت في بداية هذا المقال، فعكرت الأجواء وأبطلت المحاولات، وحوّلت الأنظار إلى اتّجاه معاكس تماما. فما كان يخطر ببال أحد أيّ كان أن تعرف المنطقة مثل هذه التطاحنات وبالأخص مدينة بريان التي عرفت بالهدوء والتعايش حقّا منذ زمان وبالشراكة بين المتساكنين فيها سواء في الفلاحة أو تربية المواشي أو التجارة بل وهناك حتّى العلاقات العائلية بحكم الرضاع الذي كان معروفا لدى الجميع، وبالتالي يمكن اعتبار ما حدث في بريان هو استفزاز صراخ بل وفتنة كما أشرت في العنوان، إذ انطلق من أشياء تافهة وتافهة جدًّا ليتطور شيئا فشيئا ليصل إلى مستوى خطير حقّا لما استغلت الطائفية الدينية والنزعة العرقية لإذكاء نار الفتنة بين عناصر البلدة الذين كانوا إلى ذلكم الحين في وئام وتعايش وسلام. والحق إنّه لا أسهل لإشعال نار الفتنة وانتشارها من التوظيف الخبيث لهذه المكونات الأساسية للهوية الوطنية في الجزائر. ثمّ إنّ الرواسب والأضغان التي تستمر خفية في النفوس لتفعل فعلتها على مرّ الأيام، وقد تتفجر بعد مدّة خاصّة وأنّ مكونات مجتمعاتنا أصبحت تعيش في شبه عزلة وتقوقع ما دامت كثير من الوسائل مهيأة لها محليا. فبعد أن كان الشباب خاصّة  يتنقل من بلدته ليلتقي بأبناء بلديات أخرى في أحضان الجامعة مثلا أضحى يواصل الالتقاء والاحتكاك بنفس شباب بلدته أو منطقته سواء في الثانويات أو الجامعة المحلية ليتخرج في الأخير شبه عنصري حقّا، ولو أنّ تكوينه قد يكون ترقى. وما فائدة كلّ ذلك إن لم يكن للأخلاق والتربية الوطنية والمدنية نصيب في تكوين الأجيال الصاعدة لتصحيح هذه الاختلالات والقضاء على مثل هذه الرواسب.

وبالرجوع إلى الأحداث فقد قيل أنّه بمناسبة المولد النبوي الشريف هناك شباب طائش رمى محرقة نحو بنت كانت بصحبة أوليائها، هذا ما قيل أوّلا، ثمّ قيل إنّه تحرش بهذه الفتاة، ثمّ قيلت أقوال أخرى، وكلّ هذه محاولات للتغطية عن الفتنة التي أذكيت نارها لتعصف من الأساس بالفكرة، فنسفت بالتالي التعايش نفسه الذي كان معروفا في بريان.

هذا وإنّ مختلف الإشاعات التي روجت من طرف المغرضين قد أثارت حفيظة بعض الشبان الطائشين من كلتا الطائفتين من هنا وهناك من عرب وبني ميزاب كما يقال، فأصبحت الأمور تأخذ أبعادا أخرى من حرق الدكاكين ونهب السلع والتعدي على المارة إلى غير ذلك، وتطورت الأمور إلى السكنات وإلى التهجم على الأشخاص. فوقعت ما وقعت من خسائر مادية ومعنوية، وهذه هي بالتالي نتائج لتصرفات بعض العناصر اندسوا في الصفوف، واغتنموا فرصة التناحر والتنافر، وفرصة غالية مع الأسف هي المولد الشريف الذي كان دوما رمزا للتعايش وللسلام في ظل الإسلام. فكيف أصبح من أسباب الفتنة و بماذا؟ برمي محرقة، في حين أنّ الدكاكين المتواجدة عبر جنبات طريق السوق كان الكثير منها يبيع ويشتري هذه الأشياء المحرّمة قانونا. ولو كانت السلطة المحلية حازمة كما يجب أن تكون، فلربّما كانت منعت كلّ هذه الأسباب الواهية مادامت السلطة العليا قد أعلنت أنّ هذه المفرقعات محرّم بيعها وشراءها ومحرّم استعمالها. فتغاضي السلطة عن هذه المخالفات كان خطأ فادحا أوّلا وقبل كلّ شيء. ثمّ إنّ ضعف اليقظة وعدم اغتنام الفرصة لإيقاف التصعيد وعدم التدخل السريع للمصالح المختصة لفرض استتباب الأمن زاد الطين بلة، فأخذت الأحداث تأخذ أبعادا مأساوية حقًّا.

 فبمناسبة المولد الشريف عوض أن تكون هناك أفراح ومسرّات كما كانت العادة في بريان وغيرها من مدن ميزاب أصبحنا نعيش الروع والخوف في أتعس مظاهره. لذا وفي نظري دائما أقول إنّ هناك أمورا مدبرة في الخفاء لنسف كلّ أسباب الهدوء والطمأنينة في هذه المناطق وغيرها من المناطق الأخرى التي عرفت تذبذبا واستفزازات مع الأسف، تستوجب المصلحة العليا أخذها بعين الاعتبار ومعالجتها بسرعة وذكاء حتّى لا تأخذ أبعادا قد تكون خطرا على الوطن وتماسكه وأمنه خاصّة ونحن قد اكتوينا بنار الفتنة من قبل ردحا من الزمن، وأضحى لزاما علينا أن نبقى حذرين لكي لا نلذغ مرّة أخرى ولكي لا نؤتى من مأمننا كجزائريين وكمؤمنين خاصّة.

وبعد ذلك ظهرت مناشير وأعلنت مواقف بسرّية بواسطة الإعلام الآلي وغير ذلك من الوسائل العصرية، وبالطبع بأسماء مستعارة أو ملفقة، واتّهم من اتّهم فيها، واتّجهت الأنظار نحو أحد أعيان بلدة بريان وهو الأخ أولاد داود محمّد وهو من النشطاء ضمن المجتمع المدني، ومن الأعيان المرموقين للبلدة وللمنطقة، كما كان عضوا بارزا في المجلس الوطني الانتقالي إذ كان مقرر اللجنة المالية، وهو منصب حسّاس ومسؤولية خطيرة في تلكم الظروف العصيبة حقًّا، أسند له نظرا لكفاءته وقدرته ومكانته، فهو بالتالي ليس أبدا من النّاس الطائشين الذين قد يقدمون على مثل هذه الترهات والمزاعم التي ألصقت به مع الأسف، فأضحى متابعا ومصادرا من طرف قوات الأمن لما له من أجهزة وهواتف نقالة إلى غير ذلك، محاولين أن يثبتوا من خلال كلّ التحريات العلمية منها للدرك أنّه هو الدماغ المفكر والمحرك والداعي إلى الفتنة، وقد أودع السجن، والله يشهد ونحن نعرفه وكلّ المخلصين يشهدون أنّه بريء من كلّ هذا، وأن الطائشين والدافعين لمثل هذا هم عناصر مندسة تعمل في الخفاء. وهناك من كان معروفا زمانا إذ ندّدنا به أيام الفتنة الأخرى التي وقعت في غرداية وامتدت شراراتها الى بريان، وندّدنا بالذين كانوا يتاجرون ويبيعون ويشترون الأسلحة ولو مفككة تحت غطاء نقل البضائع، وغير ذلك. فمهما يكن فإنّ هذه أمور مضت ولكن الإشارة إليها مهمّة لأنها تكشف عن جانب آخر من العناصر الذين يعملون في الخفاء لضرب الاستقرار والساعين لاستدرار المنافع والإكثار من النفوذ وتقوية صفوفهم للسيطرة على النّاس البسطاء والضعفاء.

هذا مدخل للتعريف بالأجواء التي كانت سائدة وبالتالي من المغرض وما الغرض؟ إنّه السؤال الذي يجب أن يطرح دوما: من الدافع إلى هذه الأمور ومن المستفيد منها؟ أسئلة وأسئلة يجب أن تطرح في كلّ حادثة وفي كلّ مرّة إذ الذين يدفعون إليها هم أطراف تستغل سذاجة العناصر الشبانية خاصّة وحماسها وتعاستها وطيشها في بعض الأحيان، وهي التي مع الأسف تستفيد وتربح من الكثير من الحوادث لأنّها تتربع على عرش المجتمع ماديا ومعنويا وتتقرب بل وتركز نفسها بواسطة بعض أجنحتها في السلطة. هذه نقطة مهمّة جدا.

وتطورت الأمور وأصبحت في المحاكمات والسجن بعد التهم والشكوك. وكانت بالطبع تدخلات مختلف المصالح التي تعرف أو لا تعرف خلفيات الحقائق. وتدخلت كذلك أجهزة الدرك والأمن بمستواهم الضعيف أخلاقيا ومهنيا مع الأسف، كلّ هذا عمّق الجرح وأحدث الشرخ في بلدة بريان، فأضحت عناصر الأمن مرتكزة في المناطق أو في مفترقات الطرق وفي نواحي البلدة واتّخذ ذلك ذريعة لإرساء ثكنات ومراكز شرطة لعلّه بعد فوات الأوان. وكلّ هذا يدل على أنّ هناك مرامي كثيرة نحو هذه البلدة بصفة أخص ونحو الولاية والمنطقة بصفة عامّة. وعلى كلّ حال هذه حالة مؤسفة ومن أجل هذا سميت ذلك فتنة لأنّ بريان كانت هادئة وسكانها كانوا متعاطفين ومشتركين في التجارة والفلاحة والرعي ومنهم من له كذلك صلة أرحام وقرابة ورضاعة كما أسلفت، وبالتالي ليس من الممكن أن يحدث مثل هذا في بريان، خاصّة وأنّنا عندما نتصفح مختلف أحيائها نجد أنّ السكنات لا نفرق بين إحداها والأخرى، والمتساكنون من عربوبني ميزاب كما يقال جيران لبعضهم البعض. لكن ونتيجة لهذه الاضطرابات والاختلالات والأغراض وقعت كثيرا من الخسائر، واضطر البعض للهجرة من أحياء إلى أحياء أخرى والبعض الآخر من ناحية أخرى إلى هذه النواحي، وبالتالي عادت الأمور إلى بدايتها المؤسفـة وهي التجمع على أساس العنصر والانتماء والمذهب، وقد كانت هذه الأمور غير معـروفة وغير معتمدة البتة بهذه الحدّة.

وللأمانة نذكر أنّنا ولو كنا ننتمي إلى مذهب لكنّنا لم نكن نعرف أبدا الفروق البعيدة بين المذهب المالكي والإباضي بدقة ما دامت تتعلق بالأمور الغيبية. فآباؤنا رحمهم الله من هذه الطائفة أو تلك لم يكونوا يركزون على الاختلاف بقدر ما كانوا يركزون على التقارب والتعايش والحمد لله. هذا ما عهدناه وعرفناه. فلم نكن نفرق بين الإباضي والمالكي إلاّ ما نشاهده من رفع الأيدي عند تكبيرة الإحرام أو تحريك بسيط للسبابة عند التشهد، وأمّا في باقي الصلاة فالكل يسدل. أمّا الجديد والتطرف الذي حدث مع الفوضى التي وقعت في السنوات الأولى من زمن التعددية وانتشار النزعة الإسلامية المتطرفة وظهور السلفيين، وأمّا المظاهر الأخرى الغريبة مثل تشبيك الأيدي وكثرة تحريك السبابة وغيرها فهي من استحداث هؤلاء الأكثر شدّة والمتركزين في بريان. فمحاولة نسف كلّ عناصر الوئام والوحدة، كانت هذه إحدى أهدافهم ونتائجهم المؤسفة ولا تزال مستمرة.

هذا وبعد ذلك تأتي المناورات والمؤامرات والمحاكمات والأحكام بالبراءة في بعض الأحيان والسجن في بعضها، لكن المؤسف كلّه أنّه بعد كثير من الجلسات وكثير من المحاكمات في المرحلة الابتدائية ومرحلة المجلس في غرداية، صدرت أحكام بالبراءة فطلب نقضها والطعن فيها، وإلى اليوم لا تزال معلقة وبقي مصيرها مجهولا، ولسنا ندري إن كان لبعض الأطراف القريبة من السلطة دخل مباشر في إرجاء هذه المحاكمة والبت فيها، وهي التي من شأنها أن تحل السكينة والطمأنينة مرّة أخرى في بلدة بريان، وهذا مؤسف جدّا أن نلاحظه.

ولسنا نبالغ إذا قلنا إنّ كثيرا من الأطراف لها يد في هذا ولها فائدة من ورائها، ويمكن استشفاف ذلك من التدخلات المتعدّدة لممثلي الأحزاب والأطراف التي سعت لفك القضية أو المساهمة في الدفاع عن المتهمين بمقابل أو تطوعا، وهو ما يزيد المتتبعين والمخلصين أسفا أن تستغل أطراف مآسي مثل هذه لبسط أو كسب النفوذ والأنصار، وكذلك كان دأبهم مع الأسف في مناسبات أخرى وفي مناطق مختلفة من الوطن.

فما أحرى بأبناء بريان جميعا أو غيرها من المناطق التي هزتها أو قد تهزها مختلف الأحداث، سواء تلك التي لها دواعي معقولة ومقبولة أو تلك التي قد تفتعل لمسّ أمن وطمأنينة المواطنين وزعزعة أيّة منطقة أو الجزائر من وراء أيّة ذريعة، فحري بالجميع إذن أن يتفطنوا لمثل هذه المكائد وأن يتصدوا مجتمعين متراصين لإحباطها والمقاومة سلميا لإفشالها والضرب بصرامة علي يد كلّ المخربين للوطن والعابثين بقيمه والمستغلين لها لبلوغ أهدافهم الخسيسة.

فالخطر كلّ الخطر يكمن في استعمال الدين ومحاولة اللعب على الوتر الحسّاس وهو المذاهب أو بدرجة أقلّ اللهجات لإذكاء نار الفتنة بين فآت المجتمع وتأليب بعضها على بعض أو تعميق الشرخ أو ركوب موجة التيارات الجديدة والدخيلة الآتية من هنا أو هناك مهما كان قصدها، لأنّ المساس بالعنصر الصلب من مكونات شخصيتنا الوطنية وبخاصّة الدين هو بمثابة المسّ بالجزء الصلب من الذرة تتفجر القنبلة به فتكون الكارثة لا قدّر الله.

ومن جهة أخرى يجب على الجميع أن يتابع تطور الأساليب الخسيسة التي يسلكها الأعداء وبخاصّة ضد بلداننا العربية والإسلامية. فبعد تحررها من ربقة الاستعمار لم يهنأ لهم بال بل عمدوا إلى الصراعات العرقية لتشتيت شملها، ثمّ في مرحلة أخرى لجأ الخصوم إلى استغلال النعرات العرقية والطائفية والمذاهب الدينية للتفجير من الداخل، وهو الأخطر، فأصبح أبناء الوطن الواحد في صراع مدمر عقيم عوض الاعتناء بأوطانهم لتنميتها وتوطيد أركانها واستغلال كلّ الفرص لضمّ صفوفها، فأضحى الاقتتال والتناحر المشهد المخزي، والتقهقر عوض النهوض والرقي، خاصّة وأنّ الله وهب هذه الأوطان مختلف الموارد وعناصر الثروة، إلاّ أنّ التخلف والعمالة للأجانب والجشع قد أدّى إلى تردي الأوضاع مع الأسف. وما حالة العراق الشقيق مثلا والصراع الدائر فيه بين الشيعة والسنّة والعرب والأكراد وغيرهم إلاّ مثل حي لِما آل إليه بلد كان الرائد في الحضارة والتقدم العلمي، بغضّ النظر عن النظام الحاكم. فقد أصبح مهدّدا حقًّا بالانقسام والتشرذم على أساس الطائفية والمذهبية. والحديث قد يطول عن حالات البلدان الأخرى وبخاصّة العربية الإسلامية وما تعانيه من تحامل شرس ضدّها بدعوى مكافحة الإرهاب، وكأنّ ما قامت وتقوم به هذه القوى المسيطرة على العالم، ومن ورائها الصهيونية، من تعدّيات واستفزازات ضدّ كلّ ما يمتّ إلى الإسلام بصلة بل وقمعه يعتبر أمر طبيعي في حين أنّه هو الذي أثار كلّ هذه الردود العنيفة دفاعا عن الذات ومحاولة إثبات لها.

لكن بفضل الوعي الوطني الرفيع الخالص والمخلص سنجنّب نحن جميعا مناطقنا كافة ووطننا الجزائر عموما ما يترصّدها من الدسائس والمؤامرات الخبيثة والدنيئة، ما دمنا قد اكتوينا قبل اليوم بنار الفتنة، واستخلصنا منها كافّة الدروس المفيدة، وسنستمر في المساهمة في تنمية الجزائر وازدهارها، ودعم أمنها ووحدتها، وعلو شأنها ومكانتها بين الأمم، وما ذلك على أهل الهمم العالية بعزيز ولا ببعيد المنال.

 

العطـف يوم: فاتح ربيع الأوّل 1434هـ  

الموافـق ليوم: 13 جانفي 2013م

 

 فهرس المقالات :

 

- مقدمة

 

- حول بعض الأوضاع المحلية

 

- حول أحـــداث غردايـــة

 

- حــــول فتنة بريـان

 

- حول فوضـــى القـــرارة

 

- حول أحداث غـــرداية الأخيرة

 

- الخـــاتمــــة

 

- الخلاصة: بعض الأفكار الرئيسية والهامّة التي وردت في الكتيّب

 

 

 

إضافة تعليق