أنت الآن هنا: الصفحة الرئيسة - أحداث ومحطات - فتنة غرداية ديسمبر 2013 - أحداث غـــرداية الأخيرة

أحداث ومحطات

الثلاثاء 23 ديسمبر 2014

أحداث غـــرداية الأخيرة

عبدالوهاب بن الشيخ عبدالرحمن بكلي-وزير سابق

منذ نوفمبر 2013م عرفت منطقة غرداية قلاقل وأحداثا مؤلمة ومؤسفة، صاحبتها تعدّيات على الممتلكات حرقا ونهبًا وإتلافا، سواء في السكنات أو المحلات أو الحركات التجارية أو المستثمرات الفلاحية بما فيها حتّى الحيوانات وغيرها. والأدهى والأمرّ هو امتداد يد الفساد لتطال قبور الموتى ليكشف عنها ويعبث بها، ثمّ تأتي المحاولات لحرق مستندات ديوان سهل وادي ميزاب الذي يضمّ وثائق هامّة لَمّا صنّف تراثا عالميا كما هو معلوم، وكذا السطو على معهد عمي سعيد الشهير بجدّيته ونتائجه الممتازة دوما. هذا على سبيل الذِّكر.

هذا ولقد أدّت التعديات على المواطنين إلى بروز نزوح بعض العائلات، وترك مساكنها لتستقر وسط المجموعات التي تضمن لها طمأنينة أكثر وأمنا أوفر، فأضحى التجمّع لكلّ طائفة مع عناصر تنتمي إليها على أسس لم تكن للأسف في الماضي القريب معتمدة. وهكذا أضحت أحياء محرّمة على سكان لهم فيها أملاك وحركات بل وشهدت بعضها تخريبا وسرقات.

حقًّا إنّ هذا لممّا يؤسف له في بلدة عرف أهلها بالتعايش السلمي منذ زمان، وكانت مضرب الأمثال في النشاط والعمل الجدّي في وئام و انسجام.

وعلى ذِكر هذه المفاخر لابدّ لنا من التأكيد لكافّة أبنائنا على أنّها لم تتحقق هكذا، بل بفضل جهود مضنية لأجداد وآباء مخلصين حقًّا، مستنيرين بهدي القرآن الكريم والسنّة المطهرة، وكانوا يتمتعون بأخلاق سامية في عفوية وبساطة، ونضج ووعي وطني ونظرة مستقبلية ثاقبة رغم مستواهم العلمي المتواضع، فحقّقوا ما أشرنا إليه، بل كان ذلك هو الإسمنت الذي شدّ بنيانهم فأضحى مرصوصا حقًّا، تجلى ذلك في الأيّام الحالكة التي مرّت عليهم أيّام الاستعمار البغيض وبخاصّة إبّان الثورة المباركة المظفرة.

وأمام وضعية المنطقة التي أصبحت متردّية وغير معتادة، بل والمحيّرة، سارعت وفود مختلفة من الأصدقاء والغيورين قاصدة الميدان للاطّلاع على الأوضاع ومعرفة الحقائق عن كثب، علّها تساهم في إيجاد الحلول أو تهدئة للحالة. لقد كانت عديدة حقًّا ومتنوعة إلى حدٍّ بعيد إلاّ أنّ إقامتها لم تطل لعدّة أسباب، فلم تتمكّن من بلوغ مقاصدها رغم نبل نواياها وذلك لصعوبة الظروف، خاصّة وأنّ معضلة الأمن لم تحل بعد، والأعصاب لا تزال متشنجة، والوصول إلى مختلف الأحياء صعب إن لم نقل متعذر. وهكذا اضطرت هذه الوفود إلى مغادرة المنطقة دون المساهمة الفعلية في الحلول المقترحة. لكنّها شاهدت الآثار السلبية لِما قام به هؤلاء وأولائك مع الأسف وتعرّفوا على بعض ملامح المأساة.

هذا من طرف المجتمع المدني المتطوع الذي تنوعت مراميه، ممّن اعتبر تنقله واجبا دينيا، إلى من أدرجه في سيرورة نشاطه عامّة، إلى من دفعه فضوله إلى زيارة المنطقة التي سمع عنها ولم تسبق له معرفة بها، إلى غيرهم، حتّى ممّن ابتغى المساهمة شهرة وعملا إعلاميا. ومن الوفود من جاء من خارج الوطن لحاجة في نفسه ومقصدا لا يعلم حقيقته وخباياه إلاّ الله وأهل العلم بهم. ومنهم من اعتقد أن إقحام التنظيمات الأجنبية من وسائل الضغط على السلطة الوطنية، وخطأ ظنّوا. كما سعت أطراف أخرى لربط تلك الأحداث بعلاقات مع جهات أجنبية لكن اللعبة كانت مفضوحة، فلم يكن لها أيّ تأثير، بل كانت ستعقّد الأوضاع، ممّا لا يكون  مساعدا في حلّ الأزمة بتاتا.

 

وخلاصة القول إنّ صدمة الوقائع وفداحة الأحداث قد هزّت عديد المشاعر رغم اختلاف مشاربها ومقاصدها، لِما لهذه المنطقة المعروفة بهدوئها وخصال أهلها من سمعة طيّبة معروفة لدى القاصي والداني منذ أمد بعيد. ولقد ساهمت هذه المأساة في محاولات عدّة لمعرفة أكثر تدقيقا للمنطقة وأهاليها وتقاليدهم وعاداتهم والصراعات التي عرفتها و المتسبّبين فيها.

أمّا الجانب الرسمي فقد حاول التحكم في الأوضاع الأمنية، معتمدا على الإكثار من عناصر الأمن والدرك الوطني، لكن ضعف المستوى المهني وغياب القيادة المتمركزة محليا، حالت دون إنجاز المهمّة بنجاح، والتدخل بقوة في بداية المناوشات، للضرب بيد من حديد للحدّ من انتشارها، والقبض على المعتدين وبخاصّة الملثمين، والزج بهم في السجون دون شفقة أو رحمة، ولو كانوا قصر أو احتموا بالدور وتستروا وراء النساء، لأنّ ذلك من شأنه إيقاف مسلسل العنف، وردع المعتدين، وتلقين درس للجميع، وفرض لسلطة وهيبة الدولة.

ومع تصعيد حركة العنف تغيّرت المقاربة، فوحدت القيادات وأعطيت لها الصلاحيات، فظهرت النتائج الإيجابية الأولى في الجانب الأمني، لكن لبّ الصراع لم ينل حظه من الحلّ. وهكذا عرفت المنطقة زيارات لعديد المسؤولين في المستويات العليا من السيّد الوزير الأوّل إلى قائد الناحية العسكرية الرابعة والقائد الأعلى للأمن والدرك الوطني، إلى جانب الوزراء وبخاصّة وزير الدولة وزير الداخلية، لكن لم تتغيّر الأمور إلاّ قليلا تبعا للوعود والاقتراحات المقدّمة. ونظرا لتعثر المساعي وضعف النتائج لجأت القيادة إلى تغيير السيّد الوالي الذي لم يسعفه حظه في غرداية إذ تزامنت تسميته وتوليه مسؤولية الولاية مع بداية الأحداث، فلم يتمكن من معرفة حقيقية للمعطيات المحلية التي كانت من وراء كلّ ما جرى ويجري مع الأسف ليتمكن من المساهمة في حلّها.

لكن ما هو أليم حقًّا هو استمرار أعمال العنف والشغب هنا وهناك رغم الوجود المكثف لقوات الأمن في مختلف نواحي البلدية مع بناء هياكل جديدة لها للتمركز، غير أنّها كانت تتذرع بنقص أو غياب التعليمات للتصرف إزاء العناصر المشاغبة، وهو في حدّ ذاته موقف غريب، وهو كذلك ما جعل هذه العناصر تتمادى في طيشها وتستمر في أعمالها التخريبية الممنهجة.

أضف إلى ذلك انعدام الصرامة في الأحكام التي من المفروض أن تسلّطها العدالة على العناصر المتعدية من هذه الطائفة أو تلك، بل والتغاضي عن الجناة وتركهم أحرارا لسبب أو آخر، إلى غير ذلك من مظاهر ضعف السلطة القضائية بغية شراء الأمن الاجتماعي، فغاب فرض احترامها وفقدت سلطتها، إن لم نقل كانت متخاذلة مع الأسف.

وفي خضم ردود الفعل برزت طوائف شبانية من الميزابيين اتّخذت من النيل من الخصوم بدورهم كذلك سبيلا للردّ، فزادت الأوضاع تأزما. فلم تجد كلّ المساعي المبذولة للتهدئة وإعادة الحياة الطبيعية لأحياء المدينة.

لقد تكثفت الجهود من أجل جمع الإخوة الفرقاء، ومعرفة الدوافع والأهداف لكلّ هذه المشاغبات المصحوبة بكلّ هذه الخسائر بل وحتّى الضحايا البريئة، لكن النوايا لم تكن مخلصة حقًّا، فتعثرت وتبعثرت خاصّة لما اندسّت عناصر مغرضة، لتستأثر بالقيادة وتظفر بالزعامة ولو على حساب المواطنين المتضررين.

وإلى جانب هذا ظهرت الوسائل المستحدثة في مجال التواصل الاجتماعي لتخلط الأوراق وتبعثر المجهودات وتزيد الطين بلّة، بما أصبحت تنشر من آراء وتعليقات مزيفة لكثير من الحقائق، لتنال من هذه الفئة أو تلك تحت أسماء مستعارة وخبيثة حقًّا، فساهمت في بثّ الفتنة بما دعت إليه من الحقد والكراهية والعنف، فعمّت الفوضى وتشعبت القضية فصدق من صدق فأضحت مهمة الصلح أكثر تعقيدا أمام أصحاب النوايا المخلصة.

ولقد كانت المناسبة مواتية لبعض الأطراف، خاصّة من القنوات الفضائية الحرة، لإنجاز تحقيقات واستطلاعات حول المنطقة لمحاولة معرفة أعمق لها، وتسليط الأضواء حولها، فكانت متفاوتة مستوى ومحتوى، ولم تكن مؤثرة حقًّا، بقدر ما أثارت ردود أفعال متباينة حسب منطلقات الإعلاميين والضيوف المدعوين للمشاركة في هذه الندوة أو تلك، بغض النظر عن المعطيات التي ارتكزت عليها الحصص المنجزة والأهداف التي ترمي إليها. ومن جهة أخرى حاولت أطراف إقحام بعض الجهات الأجنبية، وربط الأحداث بما يسمّى حقوق الإنسان للضغط على السلطة، واللجوء إلى المسيرات والتجمعات للتنديد بما يجري في المنطقة في ظلّ السكوت عنه.

ولقد استمرت محاولات التهدئة رغم كلّ العراقيل، واغتنمت حتّى فرصة قرب الانتخابات الرئاسية وحساسيتها، ثمّ بعد ذلك قرب شهر رمضان المعظم، فعرفت المنطقة نوعا من الهدوء، لكن كما يقال إنّه يشبه الهدوء الذي يأتي قبيل العاصفة. وبالفعل لم تكد تمر الانتخابات حتّى استأنفت المناوشات. أمّا رمضان فلم يحترم أبدا بل وعرف إزهاق أرواح، واستغل لإذكاء الحقد والكراهية بما ألقي فيه من خطب نارية محرضة، عوض اغتنامه لتهدئة الخواطر والدعوة للأخوة وإصلاح ذات البين، ونبذ العنف وتصفية القلوب من الضغائن وإرساء الأمن الاجتماعي.

لقد كان هذا جانب من الضعف الذي استغل، كما استغلت شعارات من الجاهلية مثل الإباضية خوارج، ورفعت لافتات سخيفة مثل ارحل في مسيرة بمدينة متليلي الشعانبة المجاورة مثلا، شارك فيها أو جرّ إليها حتّى بعض المثقفين الذين يفترض أن يكونوا دعاة للسلم والصلح بين أبناء عمومتهم في غرداية وجيرانهم من إخوانهم الميزابيين.

ولمعرفة سريعة للطرفين المتورطين في هذه الوضعية لا بأس أن نعرّف بهما. فهناك ما يسمّى عرب غرداية من الإخوة المتساكنين وهناك بنو ميزاب، ولو أنّنا كنّا ندقّق في العبارات لقلنا إنّ جميع سكان المنطقة ميزابيون، ما داموا كلّهم سكان نفس المنطقة، وادي ميزاب، لا فرق بين عرب وأمازيغ وإباضي ومالكي.

أمّا عرب غرداية فمن أعراش مختلفة مثل الشعانبة وبني مرزوق والمذابيح خاصّة، ومن المنتمين إلى أعراش أخرى مختلفة ومتعدّدة أقلّ عددا استوطنوا إلى جانبهم. هذا في غرداية أمّا في المدن الأخرى مثل بريان والقرارة وغيرهما فهناك أعراش أخرى من الإخوة المتساكنين سواء من المستقرين القدامى أو من الذين التحقوا بهم بحكم القرب أو القرابة والمصاهرة، إلاّ أنّ المهم هو أنّهم يتحدثون باللهجة العربية الدارجة ويتبعون المذهب المالكي، ولهم تقاليد وعادات متقاربة.

أمّا الميزابيون فيتكونون من عشائر متعدّدة ومختلفة، متقاربة في العادات والتقاليد ولو أنّ هناك بعض الفوارق البسيطة بينهم، لكن الأهمّ هو اللهجة البربرية المحلية التي يتحدثون بها وتجمعهم، وكذا المذهب الإباضي الذي يتبعونه كلّهم وِفق السِّـيَر التي رسمها لهم أوائلهم.

إنّ هذه الجزئيات لم تكن إلى ماضي قريب مثار مشاكل تذكر، بل لقد سعى الأوائل رحمهم الله إلى تقريب كافّة المتساكنين بما يضمن العيش الهنيء والتكامل المثمر لفائدة الجميع. لقد تحقّق ذلك والحمد لله رغم الظروف الاقتصادية والاجتماعية العصيبة، ثمّ مكائد الاستعمار الغاشم وأذنابه الذين كانوا يستغلون كلّ الثغرات والهفوات لإذكاء نار الفرقة والفتنة، فلم يستطيعوا، لأنّ الجميع كان متشبّعا بالقيم الإسلامية السامية التي ما فتئ العلماء والمصلحون يغرسونها في النفوس، فغدا الجميع واعيا بكيد الأعداء المتربصين فاتّحدوا. ثمّ جاءت الثورة المباركة فوطدت اللحمة وتحقّقت المعجزة فاسترجعت الجزائر حريتها وسيادتها بفضل الأخوّة الصادقة والعفوية المخلصة.

ومن المبرّات التي سجلها الأوائل هي تعميم التعليم لكافّة الأبناء القاطنين في كلّ بلدة دون استثناء، فاستفاد عدد هام من المتساكنين بمستوى محترم، كان الزاد الثمين لخوض غمار الحياة العملية سواء قبيل الاستقلال أو بعده، ممّا يشهد به المستفيدون منه أنفسهم.كما أنّ الفرق الرياضية والحركة الكشفية عرفت انضمام عناصر من المتساكنين ولو بدرجة أقلّ، لكن الأبواب لم تكن موصدة دون وجه أيّ كان.

ومع الاستقلال وبروز بعض الزعامات الجديدة المتعطشة للتسلّط، عرفت المنطقة سلوكات من نوع جديد استغلها بعض الإخوة المتساكنين مع الأسف عبر محطّات وفي مناسبات، ممّا عكّر صفو الأخوة، بل وأدخل الجميع في دوامات كان أحرى بالجميع أن ينأى بها لاستبقاء الاستقرار والتماسك الذي عمل الحكماء والعلماء على إرسائه وتدعيمه.

ولقد بدأت هكذا بعض الأطراف من المتساكنين في التهجم على النظم السائدة في المجتمع الإباضي، وأعانهم في ذلك بعض أبناء نفس المجتمع، بدعوى فتح آفاق مستقبلية مع العهد الجديد بعد الاستقلال، وضرورة التفتح ورفض التقوقع والانغلاق على الذات. ولقد اشتدت هذه الدعوات مع اعتماد الفكرة الاشتراكية التي رأى فيها هؤلاء وسيلة مثلى، خطأ، لبلوغ هذه المقاصد غير الطبيعية، وما أدرك أولئك وهؤلاء أنّ مثل تلك النظم والأعراف وما يحيط بها من عادات وتقاليد، إنّما هي ثمرة جهد جهيد لعلماء ومفكرين، ونتيجة سيرورة حضارية عريقة أثبتت نجاعتها ونجاحها القرون العديدة، ولو أنّها في بعض جوانبها تحتاج إلى تطوير ذكي يحافظ على اللبّ، ويدخل على الحواشي تلكم التغييرات الضرورية التي تضمن لها البقاء، وتجعل منها ومن غيرها من الخصوصيات التي تضمّها الجزائر، إلى جانب ميزاب، مثل القبائل والشاوية والتوارق والتوات والرقيبات وغيرها ألوانا زاهية لفسيفساء بديعة، تزخر بها وتفتخر بها أمام الدول بشهادة العارفين والزائرين الأجانب.

وهكـذا بدأت الصراعات بين الطائفتـين من عـرب وبني ميزاب كما تسمّى. فاستغلت عدّة جوانب حسّاسة، مثل المذهب والمشاركة في النضال والكفاح إبّان الثورة والموالاة المطلقة للسلطة القائمة وغيرها، لتستمر في مناسبات وعمليات تصدّت لها الدولةعبر مسيرتها،  لتتخذ كلّ مرّة شكلا ولونا حسب الملابسات.

لقد حاول الكثير من الميزابيين توضيح الرؤيا لإخوانهم حول مختلف القضايا التي طرحت، إلاّ أنّ التعنت و الإصرار وبخاصّة النوايا المبيتة والخلفيات الحقيقية لم تسمح للمغرضين من تفهّم الحقائق، بل واعتبرت الأدلة المقدّمة غير كافية وغير مقنعة مع الأسف.

فالمذهب الإباضي مثلا، هو لا يعدو أن يكون كالمذهب المالكي أو الحنفي مدارس فقهية، واجتهادات لعلماء أجلاء فقط. فلا يجب إذن تحميله أكثر من ذلك. إلاّ أن المفاهيم التي عشّشت في أذهان البسطاء من العامّة و استغلتها أطراف لها أغراض دنيئة وأهداف هدامة، و بخاصّة أيّام الحكم الاستعماري، بالإضافة إلى محاولة زرع الفتنة بين الإخوة الأشقاء، كلّ ذلك ترك آثارا سلبية  وسيئة للغاية.

ولا بأس أن نذكر أنّ المذهب الإباضي في حقيقته سنّي، وإمامه الحقيقي هو الإمام الجليل جابر بن زيد، وهو أبعد ما يكون عن التهمة التي وصم بها كونه من الخوارج، ذلك أنّ هذه الطائفة كما يعلم الجميع لها عدّة فروع والإباضية منها براء. هذا بالإضافة إلى ما سجله التاريخ الحافل للدولة الرستمية التي اعترف لها كلّ المنصفين بالاعتدال والسماحة، مع كلّ الطوائف التي عاشت معها طيلة حكمها الساطع، لمّا أسّست للدولة الجزائرية حكما في حدود الجزائر الحالية تقريبا، و هو ما أقرّه  المعاصرون لها من المنصفين آنذاك مثل العالم ابن الصغير المالكي الذي خلّد ذلكم التاريخ المجيد.

لكن ضعف المستوى العلمي وأسباب أخرى، كما سبق ذِكره قد تركت رواسب ورسخت ذهنيات سلبية مع الأسف، فلم تنمح بعد، ولو أنّنا للأمانة يجب أن نعترف أنّ حدتها كانت قد ضعفت بعد الاستقلال مع بروز الصحوة الإسلامية الحديثة، إلاّ أنّ الرياح السلفية الجديدة قد نفخت في الرماد القديم لأغراض وأهداف مستحدثة.

والخطير في الأمر هو ذلكم الاعتقاد الزائف السائد وهو أن الخوارج ممّن يحلّ دمه وعرضه وماله، فأضحى ذلك مطية لخبثاء النفوس للنيل من إخوانهم الإباضية تحت هذه الذريعة والنظرية المغرضة والمنحرفة.

ولعلّ من الأخطاء التي لم تصحّح بعد بقوة ووضوح، من طرف قيادة البلاد هي عدم الاعتراف بالمذهب الإباضي رسميا، كمذهب جزائري إلى جانب المذهب المالكي، شأنه شأن المذهب الحنفي، للبت نهائيا في موضوع المذاهب في الجزائر، ما دام لا أحد ينازع الأغلبية المطلقة للمذهب المالكي. وإلى جانب هذا الإجراء يجب إتباعه بتعريف ضاف بهذه المذاهب، ومدى تقاربها، لطمأنة أنصاف العلماء، ولقطع الطريق أمام الغلاة المتطرفين الذين يحاولون استغلال بعض الجوانب السلبية لإثارة النعرات مع الأسف.

وأمّا الجانب النضالي لأبناء المنطقة ممّن يسمّون بالميزابيين هكذا ككتلة، وهو بالأساس خطأ، إذ لا يجب زج أية منطقة ما أو مجموعة بأكملها في خانة واحدة، لأنّ النضال والكفاح يجب أن ينسب لكلّ قائم به كجزائري بقطع النظر عن انتمائه العرقي أو الجغرافي أو العقدي.

لقد كاد التعتيم عن كفاح الميزابيين وحشرهم هكذا في خانة ضعفاء النضال أو عديمه في مقابل الاستحواذ عليه من طرف إخوانهم المتساكنين وبخاصّة الشعانبة، ثمّ إقصاءهم من الاعتراف بنضالهم من طرفهم، كلّ ذلك قد عقّد شباب الميزابيين، وأثّر سلبا على سلوكهم تجاه إخوانهم المتساكنين، فأضحى من العوامل الدفينة التي فعلت فعلتها عبر السنين.

ومن جهة أخرى لم يحظ عمل أولائك المناضلين عبر الحقب المختلفة بكامل التعريف به، ولو أنّ بعض الباحثين المهتمين بالتاريخ الجزائري الحديث قد حاولوا إبرازه، لكن لم يرق إلى المستوى اللائق به. وبالفعل لقد ساهم كلّ هؤلاء المجاهدين في ردّ ودحر العدوان الإسباني عن وهران مثلا، كما شاركوا بقوّة وبسالة في معركة بوليلة الشهيرة عند الهجوم على العاصمة.

وإلى جانب الأمير عبد القادر في مقاومته للدخيل الاستعماري الفرنسي، كان أمينه للمال من أبناء المنطقة. ثمّ بعد ذلك وقف المناصرون لحفيده الأمير خالد مواقف بطولية معه. وهكذا تابعوا نضالاتهم مع الحركات الوطنية الهامّة مثل حزب الشعب الجزائري وحزب البيان وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين وفي غيرها من الحركات حتّى الرياضية، حيث أثبتوا تواجدهم وكفاءتهم وإخلاصهم، ممّا يشهد به العارفون ممّن عمل معهم وخبرهم عن قرب.

إنّ كل هذه الإسهامات لم تكن تذكر منسوبة إلى طائفة الميزابيين بقدر ما اعتبرت لجزائريين غيورين على وطنهم وكفاهم بذلك فخرا، ولو لم يعرفه الكثير بله يعترف به المنكرون، لكنّه التاريخ وإن لم يكتب بعد بإنصاف ووضوح، فسيأتي يوم يزاح عنه ستار الإهمال والنكران.

ثمّ تأتي إرهاصات الثورة المباركة واندلاعها ليسجل أبناء المنطقة مشاركتهم الفعّالة بدءا من المنظمة السرية إذ كان لبعضهم دور هام في نقل الأسلحة والمعدات إلى منطقة القبائل مثلا تحت المواد الغذائية التي كانت لهم فيها تجارة مشهورة، كما أمدّوا المناضلين بمختلف أنواع الدعم وبخاصة المال والإيواء.

ومع اندلاع الثورة تواصل العمل المخلص لله وللوطن في ظل السرية التامة والإخلاص. وهنا لابدّ من ذِكر تواجد أبناء المنطقة عبر العديد من المدن الجزائرية، ممّا مكّنهم من العمل الثوري بفعالية مع كلّ المناضلين في أماكن تواجدهم، وبعيدا عن الكثير من الأنظار وبخاصّة من إخوانهم في المنطقة. إنّ هذه المشاركات المتعددة هنا وهناك، والغير المعروفة، تركت إخوانا لهم ينكرونهم، ولا يعترفون لهم بنضالهم الحق، ولو دعموه بشهادات عالية القدر من طرف مجاهدين مرموقين، لكن ممّن لم يعملوا معهم. إنّ هذا من الأسباب أو التعلات التي استتر وراءها كلّ أولئك الذين لم يريدوا قبول ملفات الجهاد والنضال لكلّ هؤلاء ممّن يسمّون بالميزابيين، خاصّة لمّا أرجع أمر الاعتراف للجان محلية أبعد ما تكون عن الإلمام بكلّ ما أشرنا إليه آنفا.

وفي المقابل تهاطلت طلبات الاعتراف بالمشاركة في الثورة بمختلف أشكالها من طرف الكثير من المغمورين، خاصّة من الإخوة الشعانبة، ما دام إشهاد عنصرين أو ثلاث كان كافيا للظفر بالعضوية، ولو لأشخاص عملوا مع العدو، وكانوا من الرواد والعيون الذين اعتمد عليهم الجيش الفرنسي في احتلاله لمختلف النواحي الجنوبية للجزائر وبخاصة الصحراء، سواء التحق منهم من التحق في اللحظات الأخيرة أو ممّن ادّعوا أنّهم كانوا باتّصال بالنظام ولو بقوا في خدمة العدو، إلى غير ذلك من الحجج الواهية التي منحت للكثير من المجندين ضمن صفوف العدو، ومنهم من شارك حتى في معارك ضدّ المجاهدين مثل ما عرف عن المعركة التي دارت في قرية مليكة من ولاية غرداية، والتي استشهد فيها القائد البطل أحمد طالبي. لكن مثل هذه التوريات لم تقبل لإخوانهم الميزابيين كما يسمّونهم.

ومن غريب ما علمناه في هذا المجال ما اتّصل بعناصر كانت عميلة لفرنسا، فلما بدأ يفتضح أمرهم وتوعدهم المجاهدون بالتصفية، سارعت السلطات الاستعمارية بزجهم في السجن، لإبعادهم عن الأنظار وعما يتهدّدهم أوّلا، ثمّ ليندسوا وسط المسجونين من المناضلين للتجسّس عليهم وانتزاع أسرارهم ثانيا، ثمّ في الأخير ليتمتعوا بالعضوية وتمنح لهم الحقوق كاملة مثل المجاهدين الحقيقيين.

هذا من جهة ومن جهة أخرى يجب أن نذكر أنّ العمل الثوري أساسه السرية والإخلاص لله وللوطن. فكم من مناضل في بلدة ما جهل أن أخا له هو كذلك مناضل لكن مع آخرين. وبالتالي لا يمكن لأيّ مهما تكثف نشاطه أو اتسعت دائرة معارفه أن يدعي أنّ هذا أو ذاك لم يناضل. لكن يمكن له أن يقول بحق أنّ فلانا لم يعمل معي في المكان الفلاني. أمّا أن ينكر العمل النضالي لأخ له عبر كامل التراب الوطني فهذا ضرب من المبالغة والإجحاف والجحود.

ومن الأدلة القاطعة ما عرف عن  مناضلين كان لهم فضل الجهاد مع إخوان مرموقين، وشرف الاستشهاد في أماكن مختلفة من التراب الوطني، من أقصى الحدود الشرقية مثل الشهيد الحاج عيسى إبراهيم، إلى منطقة الأوراس مثل الشهيد الطالب باحمد يحي، إلى البليدة مثل الشهيد شريفي بكير، وأعالي المدية مثل الشهيد بودي سليمان والشهيد الدكتور ترشين إبراهيم، وإلى بلوزداد بالجزائر مثل الشهيد الحاج أيوب بكير، والحراش مثل الشهيد جلمامي محمّد، وتيارت مثل الشهيد جهلان محمّد، وجبال الونشريس مثل الشهيد الدكتور قضي بكير، وسجن الأغواط مثل الشهيد باسليمان إبراهيم، كلّ هؤلاء كنماذج وغيرهم كثير ممّن جاهد و ناضل بعيدا عن منطقتهم، فلم يعرفوا ولم يعترف بهم بسهولة، بل ومن أقربائهم من تكبّد الصعوبات للحصول على حقوقهم. وهذا جانب من المعاناة التي ابتلي بها الإخوة الميزابيون.

وتأتي بعد الاستقلال مختلف المناورات والألاعيب مع استغلال السلطة، وبخاصّة تحكم الحزب الذي بقي يتمتع بسمعة التحرير الوطني الذائعة الصيت. فدخل فيه الإخوة المتساكنون أفواجا، بدعوى الانتساب للثورة، وبعد ذلك للفكرة الاشتراكية، ما دامت أغلبيتهم آنذاك من ضعفاء الدخل، فاستحوذوا على كافّة الهياكل الحزبية، ثمّ مسؤولية المنظمات الجماهيرية كما كانت تسمّى، واحتكروا النضال كأنه غنيمة، بل وسعوا جاهدين لسدّ أبواب الانخراط دون إخوانهم الميزابيين ممّن حاول العمل النضالي.

وللحقيقة يجب أن نذكر أنّ الميزابيين كما يسمّونهم كانوا متحفظين بكثرة إزاء ذلكم الولاء المنفعي، والعمل المندفع في مختلف دواليب الدولة والحزب رغم ماضيهم المشرق والمشرف، خاصّة وأنّه لم تحص لهم خيانة للثورة، ولا مشاركة في صفوف العدو، عكس الكثير من إخوانهم المتساكنين ممّن انخرط في جيش العدو أو كانوا من الڤومية.

لقد كانوا يعملون في سرية تامّة وتضحية في سبيل الله والوطن، لا يريدون جزاء ولا شكورا، وهم الذين كانوا من قبل نادوا وقاموا بمقاطعة التجنيد الإجباري في صفوف العدو، خشية محاربة إخوان لهم أو مسلمين أو مظلومين، ولو أنّ البعض من المشككين كان يعزو ذلك لأسباب اقتصادية أكثر منها دينية ومبدئية.

إنّ المهم من ذِكر كل ذلك هو إبراز الوضعية الحرجة الجديدة التي طغت في المنطقة بما لها، وسيكون لها من آثار تنعكس سلبا على الأوضاع، تتصعّد وتقوى مع تقدّم الزمن وتعقّد العلاقات، مع تعدّد مختلف أوجه المنافع والمصالح والنفوذ.

وهنا لا بأس أن نذكر للحقيقة أيضا أنّ عزوف الميزابيين عن مراكز العمل في دواليب السلطة ومختلف إداراتها قد فسح المجال عريضا لإخوانهم لاحتلال مختلف المناصب، مستغلين شغورها وكافّة التسهيلات الممنوحة آنذاك، وكذا التربصات والتكوين للترقية، فقوي بذلك تواجدهم وأحكموا السيطرة على مختلف الأصعدة، في غياب الميزابيين، إلاّ قليلا ممّن لم يلتحق بالنشاطات التجارية والصناعية لوالديهم، أو الأعمال والمهن الحرة باختلاف أنواعها.

إنّ هذا العزوف كان سببه كذلك ما أصابهم من إحباطات بدءا بالاقتتال بين الإخوة الأشقاء في الأيّام الأولى للاستقلال سعيا وراء السلطة، في حين أنّ الثورة الجزائرية قامت لاستعادة السيادة  الوطنية باسم المبادئ السامية، في سبيل الله ومن أجل الوطن، لا للأغراض التي بدأت تحدو حتّى المجاهدين المخلصين، ثمّ لِما شاهدوه من إجحاف وسوء معاملة من طرف السلطات المدنية والحزبية في مناسبات مختلفة. ولعلّ أشدها وقعا في المرحلة الأولى هي التهم الموجهة إليهم كبرجوازيين، لمّا صارت الدعوة إلى الاشتراكية تتخذ مطية للنيل منهم، وهم الناشطون حقًّا في الكسب بالجدّ والعمل المضني، في حين أنّ عاداتهم وتقاليدهم ونظامهم الاجتماعي وتكافلهم لهي أبعد ما تكون عن البرجوازية، بل هي من العدالة التي يأمر ويدعو إليها الدين الإسلامي الحنيف.

ولقد امتد سوء ظنّهم حتّى في المسؤولين، إن على المستوى المحلي أو الجهوي أو حتّى الوطني، لِما لمسوا فيهم من انحراف وتحيّز وضعف في السيرة والأخلاق، خاصّة وأنّهم قد تربّوا على الصرامة والمثل العليا التي يسعون دوما لنصرتها وتطبيقها على أنفسهم ومع الآخرين.

إنّ انصرافهم هكذا إلى الجانب المادي قد مكّنهم من تكوين رصيد معرفي، وتقدم مادي ظهر جليا يوما بعد يوم في حياتهم العادية، وفي نمط معيشتهم وسلوكاتهم، ممّا جلب لهم التنافس في أوّل الأمر، ثمّ التزاحم وهو مشروع، لكن وفي الأخير نوعا من الغيرة والحسد وهو الممقوت، برز جليا بمناسبة الصراعات
والمناوشات التي شهدتها مختلف المدن، إذ استبيحت أموالهم، وسرقت سلعهم، وخرّبت أملاكهم بدون مبرّر، بل وقتلت حتّى حيواناتهم ودمّرت مستثمراتهم الزراعية، وهو ما اعتبره العقلاء عملا همجيا بعيدا عن الحضارة والتنمية للوطن.

إنّ ما سبق ذِكره لممّا قد يفسّر لكنّه لا يبرّر كلّ ما صدر في مختلف الأحداث التي عرفتها مدن المنطقة مثل بني يزڤن وغرداية والقرارة وبريان ومليكة ثمّ بونورة مع تكرار الأحداث في بعضها خاصّة مثل غرداية أخيرا.

وفي عجالة نحاول التعـرض لمختلفها:

¨   ففي سنة 1975 وقعت في بني يسجن مشادات حول الأراضي التي حاول الإخوة المتساكنون الاستحواذ عليها. وبعد ما سقط جرحى وأدخل السجن عدد من المتصدّين للسطو، تدخلت السلطات إلى جانب العقلاء، فتمّ الاتفاق على جعل حدٍّ فاصل ذكي، ببناء مؤسسة تعليمية للجميع، وهي التي أصبحت تحمل اسم شاعر النضال والثورة المرحوم مفدي زكريا.

¨   وفي سنة 1985 عرفت غرداية أحداث شغب و فوضى بين الميزابيين وعرب غرداية وكانت على الخلفيات السلبية لتطبيقات  الثورة الزراعية وضمّ أراضي الاحتياطات العقارية. ولقد انصبّت الأعمال التخريبية على محيط منطقة لعذيرة الذي شهد استصلاحات فلاحية معتبرة من طرف الميزابيين، إلاّ أنّ الأيادي الأثيمة عاثت فيها فسادا، كما عرفت قتل أحد الفلاحين. هذا وإنّ مما أثر في نفوس الميزابيين آنذاك ذلكم النداء الصادر من صومعة إحدى المساجد لإخوانهم في شهر رمضان، كأنّه نداء للجهاد، فكان لمثل هذا التصرف مرير الأثر في النفوس، ممّا أثار حفيظتهم وأجج الفوضى وما تبعها من اصطدامات وترك من خسائر.

¨   وفي سنة 1989 كان دور القرارة لتعرف مناوشات وتهم خطيرة إذ امتدت إلى عناصر الكشافة الإسلامية الجزائرية بتهمة أنّها دنست العلم الوطني، في حين أنّ الجميع يعرف كامل المعرفة وطنية الكشافة ونضجها، وتجذرها ومساهمتها الثرية في الحركة الوطنية منذ سالف الأزمان، لكن المكائد والأراجيف في تلكم الظروف جعلت التهم سهلة التصديق.

¨   وفي سنة 1990 شهدت بريان مشادات وأعمال تخريب بل وقتل ذهب ضحيته مواطن بريء وجرح آخرون من الطرفين. أمّا سببها الحقيقي فهي نتائج الانتخابات المحلية التي جرت في جوان 1990 إذ تمكنت القائمة الحرة من التفوق على قائمة الحزب المحظور، ولو أنّ للحيلة والمكيدة أدرجت قائمة باسم جبهة التحرير، لكن نمط الاقتراع وعدد السكان أعطى الفوز للأولى، فاعتبر الإخوة المتساكنون ذلك تهميشا، في حين أنّها النتيجة المنطقية للديمقراطية الوليدة بعد إقرارها مع دستور فيفري 1989.

لقد كانت فتنة عمياء حقًّا إذ هاجر الإخوة المتساكنون جبهة التحرير ليحشروا أنفسهم بقوّة في  الحزب المحظور، كما كانت الرياح تجري به آنذاك، لكن النتائج خيّبت آمالهم. فلو أنّ أهل بريان اتبعوا نموذج إخوانهم في القرارة، ورضوا تقاسم المقاعد مع إخوانهم الميزابيين، لسلمت العواقب، لكن تعنّت قادة الحزب المحظور، ومحاولة كسب ولو بلدية واحدة في ولاية غرداية، كما اكتسحوا أغلبيتها في الوطن، لم تنجح خطتهم فخاب مسعاهم.

وهكذا وقع ما وقع إذ سُقط في أيديهم، فدفعت مدينة بريان، المعروفة ببساطتها وتعايش أهلها الثمن وعرفت أسوأ الأوضاع وأحلك الأيام. فلم تهدإ الأمور إلاّ بعد جهد جهيد، وبعد خسائر جمّة، وموت أحد المواطنين بيد جار له كما سبق ذِكره، فتركت آثارا وخيمة ستظهر فيما بعد من الأيّام. مع الأسف.

¨   وفي سنة 2004 جاء دور قرية مليكة على خلفية نزاع حول الأراضي وبخاصّة المقبرة المجاورة التي يدعي ملكيتها كلّ من الطرفين. ولقد تدخل العقلاء والسلطات لفكّ المشكل لكن استغلال الوضعية دوما من طرف المتزعمين والمتصدرين لم يسمح بحل سريع، فبقيت الرواسب لتستغل كلّما سنحت مناسبة لبعث أعمال الشغب.

¨   وفي سنة 2004 أي نفس السنة وفي غرداية قبيل شهر رمضان المعظم، قامت مصالح الرقابة بحملة اتّسمت بنوع من التعسف في التعامل مع مختلف التجار، ممّا أثار حفيظتهم، فقاموا باحتجاجات أعقبتها تصرفات غير حضارية ومؤسفة، مسّت المرافق العمومية، ممّا تطلب تدخل قوات مكافحة الشغب، فانجرّت عنها تجاوزات، راح ضحيتها جرحى من قوات الأمن والمواطنين، كما ألقي القبض على البعض وقدّموا للمحاكمة. والملاحظ أنّ هذه الأحداث لم تكن اصطدام بين الطرفين كالعادة.

¨   وفي سنة 2008 عرفت بريان مرّة أخرى في شهر مارس حوادث مؤلمة، سببها الواهي مفرقعة بمناسبة المولد النبوي الشريف، وصادف كذلك 19 مارس عيد النصر، فكانت بحقّ الشرارة التي أشعلت نار الفتنة بين الإخوة الذين كانوا قد أعطوا المثل القيم في التساكن والتعايش. فوقع ما وقع من حرق ونهب وتخريب، بل وقتل مرّة أخرى، إلى غير ذلك من المآسي. فلم تشفع حرمة المولد ولا ذكرى عيد النصر في ذلك.

هذا ويمكن اعتبار ما وقع هو من تبعات نتائج الانتخابات المحلية التي تمّت في أواخر 2007 والتي كان الفوز فيها لقائمة التجمع الثقافي الديمقراطي، هذا الذي يعتبره الميزابيون كملجإ لتحدي إخوانهم الذين رجعوا مرّة أخرى إلى جبهة التحرير، كما عدّه هؤلاء وجه من إقصاء لهم عن الحكم محليا.

ولم تهدإ الأوضاع إلاّ بعد لقاءات متعددة ووساطات أخوية من هنا وهناك، كان ختامها اعتماد وثيقة صلح بين الطرفين بحضور الأعيان والمشايخ والسلطات، على ما فيها من ضعف ستفصح الأيّام عنه بعد مدة وجيزة.

ولقد كان من الخطة المعتمدة انسحاب عضوين من الناجحين باسم جبهة القوى الاشتراكية، أقدم حزب تولى المعارضة، وآخر من الناجحين باسم التجمع الثقافي الديمقراطي، لتدعيم التشكيلة البلدية، وليفقد هذا الحزب الأغلبية، ثمّ إسناد الرئاسة لعضو ترشح ونجح باسم حزب القوى الاشتراكية، ثمّ انسحب، خاصّة وأن سبق له تقلّد هذه المهمة لعهدتين سابقتين باسم جبهة التحرير الوطني.

إنّ كلّ هذه التغييرات تؤكد مرّة أخرى أنّ التكتل لم يكن وفق القناعات الحزبية، بل للتموقع لهذا الطرف أو ذاك في السلطة المحلية وهذا هو لبّ الصراع.

¨   وفي سنة 2009 تجددت المناوشات والصراع في مليكة المتاخمة لأحياء الإخوة المتساكنين تحت نفس الذريعة المشار إليها سالفا، ودامت مدّة لتنتهي بحلول ترقيعية لم تقض على أسباب النزاع.

¨   وفي سنة 2013 نهاية أكتوبر و على امتداد سنة 2014 عاشت كلّ من غرداية مع بني يزجن وبونورة ومليكة ثمّ بريان والقرارة أحداثا أليمة، فاكتوت كلّها بالفتنة الكبرى التي لا تزال نيرانها مشتعلة.

ولقد سبقت الإشارة إلى العلاقة القوية لكلّ هذه الحوادث مع الانتخابات وتداعياتها مع الأسف.

والملاحظة الغريبة حقًّا هي استغلال قرب المناسبات دينية أو وطنية، وكان الأحرى أن تحترم، بل وتتخذ لتوحيد الصفوف بدل السعي لإذكاء نار الفتنة بين الإخوة الأشقاء.

ولقد سبقت الإشارة إلى فضاعة الأعمال التخريبية والنهب والسرقة، وإتلاف المحاصيل وقتل الحيوانات وغيرها من عمليات السطو والتهجير، وبخاصّة النيل من المقدسات كالمقابر والأضرحة والمعالم الأثرية ورموز المنطقة.

ولقد كان التعدي بكلّ الوسائل من حجارة وأسلحة بيضاء وقنابل مولوطوف وغيرها، من طرف شباب مسخر وقصّر محرضين، ملثمين في غالب الأحيان، في هجمات منظمة ومخطط لها، لا تردّهم عن أهدافهم لا قبور الأموات ولا حرمة الأماكن المحترمة مثل المصليات والرموز، ولا حتّى المعاهد معقل العلم والمعرفة.

وبعد تعدّد الهجمات واستمرار الفساد، انتقل الشباب التابع للميزابيين إلى استعمال العنف، للردّ على المتعدّين عليهم وللذود عن حرماتهم، في سلوك اعتبر في الماضي غير مألوف، لكن الظروف المستحدثة فرضت عليهم تلك الردود العنيفة، فقاموا هم كذلك بأعمال تخريبية مع الأسف.

إنّ الأوضاع لا تزال تراوح مكانها، وإن عرفت من حين لآخر شبه هدنة أو تدخل لذلك الطرف أو لآخر. فالجمر لا يزال مغطى برماد ولم ينطفئ تماما.

لكن الأسئلة المحيّرة حقًّا هي: ما الدافع لمثل هذه الأعمال الشنيعة، ومن وراءها حقًّا، ومن المستفيد منها، وهل كان كلّ ما جرى ضروريا لبلوغ المآرب المعلنة و غير المعلنة، ثمّ أين الدين الإسلامي وسماحته وتفتحه الذي يدعيه كلّ طرف، أين الأئمة والدعاة المرشدون، أين المدارس والمعلّمون، أين العقلاء والأعيان الذين يحاولون الانتصاب كوسطاء في كلّ مناسبة، أين المجتمع المدني الذي يتبجح به المتزلفون، أين أهل الخير بصفة عامّة، ثمّ ماذا أصاب الشباب ليتعاطى المخذرات ليصير ضحية وأداة تخريبية لبلدته، وكيف يتغاضى المطلعون على التعدي على رموز الحضارة في صمت رهيب، كيف يقع التهجم على مذهب مسلم جزائري عريق، كيف يتطاول على علمائه ورموزه تحت ذرائع واهية يلفقها الجهلاء ويسوقها السفهاء، كيف يستغل التطرف والغلو في الدين الإسلامي وهو رمز العدل والاعتدال، كيف يقبل أن تكوى منطقة عزيزة من الجزائر بنار التطرف السلفي الذي سعى الجميع لإطفاء نار الفتنة التي أشعلها سابقا، وذاق منها الجميع ألوانا من الأذى.

وإلى جانب هذه الأسئلة هناك أخرى مثل: أين قوّة القانون، أين رهبة السلطة، أين صرامة القضاء، وبصفة مجملة أين الدولة؟ كما يقول المواطنون.

إنّها أسئلة كلّها محيّرة حقًّا، خاصّة لمّا نعلم أنّ الجزائر تصدّت لوضعيات أكثر خطورة وحساسية فأوجدت لها حلولا، وبسرعة وصرامة، كما تقدّمت بمبادرات حتى خارج الحدود فلاقت كلّ المباركة لنجاحها ورجاحة نظرياتها.

وبعيدا عن محاولة الإجابة عن مجملها، لا بأس من التعليق ببعض الملاحظات، علّها تعين على توضيح جوانب من الأوضاع:

  •  إنّ الشغب والصراع وكلّ ما سبق ذِكره من التعدّيات والخسائر قد طال أمدها هذه المرّة بحيث كاد أن يبلغ السنة، فتعطلت الحياة العامّة وساور الجميع الخوف من عدم الاستقرار مستقبلا وركود التنمية.
  • لقد امتد التطرف إلى نبش القبور والكشف عن بعض الموتى وهتك حرمتهم.
  • لقد بلغ عدد الموتى تسعة من الميزابيين جراء العدوان بالإضافة إلى ثلاثة من عرب غرداية من طرف قوات الأمن التي تصدّت للسطو على مقر لهم حسب زعمهم.
  • إنّ المناوشات بدأت باستفزازات من طرف شباب أو تلاميذ لتمتد إلى عناصر ملثمة ولها أسلحة بيضاء.
  • إنّ الهجمات اتّخذت شكلا ممنهجا بحيث كانت تباغت الأحياء من عدّة جوانب كلّ مرّة، ولم يثنها حتّى المشي فوق القبور لبلوغ الأهداف المنشودة.
  • كانت الهجمات من طرف جماعات غفيرة، تتجمع ثمّ تقوم بالسطو كلّ مرّة بعد أن تحطم كلّ الحواجز بما فيها أسوار المقابر.
  • لقد انطلقت الملاحقات والبطش من حي ثنية المخزن وامتدت من الخلف لبلدة بني يسجن ليصبح الحي بعد ذلك محرّم على الميزابيين، رغم امتلاكهم فيه لمساكن ومحلات تجارية، تعرضت للنهب والتخريب والاحتلال.
  • وفي مرحلة أخرى انطلقت من حي الحاج مسعود نفس المحاولات، لتطوق مدينة غرداية هكذا. ثمّ انضم إلى التحرك حي العين وسط المدينة.
  • كانت المباغتات من وراء الأحياء كلّ مرة لينصبّ الفساد على المنازل والمحلات دون تمييز.
  • لقد كان الإصرار لإلحاق الأذى بغطرسة وشراسة غريبة حقًّا، بحيث كلّما حاول المعتدى عليهم صدّهم إلاّ وهاجموهم من جهة أخرى، وكأنّنا في معركة بين أعداء.
  • وكما سبق ذِكره في ردّ على كلّ هذه المداهمات، هاجم الميزابيون الحي الذي سمي بالمجاهدين، وهو المعروف كذلك بسوق الليل لِما يشهده من تجارة وتحركات مشبوهة والمتعلقة أساسا بالمخدرات.
  • ولقد امتد تهجمهم بعد ذلك إلى السوق المركزي للبلدة بما فيه المقر القديم للحزب، ذلك الذي يعتبرونه مصدر الكثير من الأكاذيب والتهم التي نالتهم.

ورغم كلّ هذه التعديات من هذه الجهة أو تلك، لم تظهر المطالب الحقيقية ولا الأهداف المرجوة من  ورائها.

إنّ الغموض الذي اكتنف هذا الجانب هو الذي كان يسترعي اهتمام كلّ من شهد الخراب الذي طال المدينة دون تمييز، وأصاب العديد من المواطنين في ممتلكاتهم، والبعض بعاهات في أجسامهم جراء التعدي عليهم، ورميهم بقطع من حديدالإسمنت فقدوا إثرها أعينهم.

وممّا يمكن اعتباره من العلل المقدّمة باحتشام، عبر وسائط أخوية، ما سمي بالتهميش من طرف الميزابيين لإخوانهم، وهذا ليس مقصود في الحقيقة، بقدر ما هو حصيلة لسيرورة الممارسة الديمقراطية التي أوّلت هكذا خطأ، ذلك لأنّ الإخوة المتساكنين كانوا إلى ماضي قريب هم الذين يسيطرون على دواليب الحكم، عبر المناصب التي تربعوا عليها باسم هذا الحزب أو ذاك، أو بتحالفات أتاحتها العملية الانتخابية بديمقراطية. ولقد كان منصب رئيس البلدية لمدينة غرداية نفسها، وكذا رئيس مجلسها الولائي ومن بعدها حتّى العضو الممثل للمنتخبين من الإخوة، فلم ير الميزابيون في ذلك حرجا، بل تعاملوا معهم بكلّ احترام، ولم يعدّوا ذلك تهميشا أو إقصاء.

وكانت الانتخابات التشريعية في الماضي مثلا أخذت اتجاها رضي به الجميع، قبل تطبيقها وفق النمط التعددي. ذلك أنّه كان لدائرة غرداية آنذاك نائبين يعطى واحد لمدينة غرداية والثاني لإحدى المدن المكونة للدائرة. وكان إلى جانبهما نائب عن دائرة متليلي ورابع عن دائرة المنيعة. لقد كان بالطبع لحزب جبهة التحرير الوطني زمام المبادرة في الترشح وللشعب الكريم فضل الاختيار والفصل بين المترشحين.

فلما اعتمدت الطريقة الجديدة في الترشح ونمط الاقتراع، ظهرت طموحات لبعض الإخوة منهم كانوا يعتبرون أنفسهم من مهضومي الحظوظ حسب زعمهم أيام سيطرة الحزب الواحد، فتكتلوا وفق ما سمحت به التوجهات الجديدة، وبرزت وجوه نافست قائمة جبهة التحرير عبر أحزاب حديثة مثل حركة مجتمع السلم والنهضة وحزب التجديد الجزائري، ثمّ بعد ذلك التجمع الوطني الديمقراطي إلى جانب القائمة الحرة طبعا، فأصبح للصراع ملحظ آخر، ممّا دفع بأطراف إلى التفكير في التمثيل في المجالس كلّها، نظرا للإمكانية التي كانت متاحة، فنجح من نجح ولم ير الجميع في ذلك حرج.

وكما سبق ذِكره ساير الميزابيون التوجهات مع ما نالهم منها من تغييب ساءهم. لكن ربّ ضارة نافعة. فقد حاولوا جمع شتاتهم واستعدوا للانتخابات التي على الأبواب آنذاك. وبالفعل سار التنظيم وفق الخطة المرسومة بينهم، سواء في الانتخابات التشريعية في 10 ماي 2012 أو المحلية الأخيرة في 29 نوفمبر 2012، ثمّ في ما تبعها من اختيار للعضو الممثل للمنتخبين بالنسبة لمجلس الأمّة في أواخر نفس السنة، بحيث توصلوا إلى الظفر بالبلدية مقر الولاية، ومن رئاسة المجلس الولائي أسندوها إلى أحد المنتخبين منهم، ولو من بلدية أخرى غير غرداية، ثمّ الفوز بالممثل لدى مجلس الأمة. وهكذا العمل الديمقراطي وما تتمخض عنه من نتائج. فليس هناك أبدا نية في أيّ تهميش كان، لكن افتكاك لحقوق منحتها القوانين. فلا مجال إذن لتأويل خاطئ، ما دامت النتائج كانت تقبل سابقا دون أيّ احتجاج، أو محاولة نسف للأوضاع غضبا من عملية لم تشبها شائبة.

لكن هذا الشعور بالتهميش في الحقيقة تعبير ضمني عن حسرة وندم عن سلوكات تطبعوا عليها أيّام تسلّط الحزب قديما، وما منح من الحقوق حتّى التي كان الأحرى أن يتمتع بها إخوانهم الميزابيون. هذا وإنّ الروح  الديمقراطية والرياضية من المفروض أن تحملهم على تقبّل الأوضاع الجديدة بصدر رحب وتفاعل ذكي كما سبق أن تحمّلها إخوانهم.

أمّا المشاركة في المسؤوليات وتقاسم أعباء البلدية فيمكن ضبطه في المستقبل، وفق نمط يمكن التفكير فيه بجدية ليقع حوله تفاهم وتنسيق واتّفاق، ولو أدّى ذلك إلى اعتماد قائمة موحدة أيا كان انتماءها، ما دامت ستحقّق التوحد والانسجام، وتقضي على أسباب الصراع، وتمحو الشعور بالتهميش وغيره، ممّا قد يتخذ ذريعة لإثارة القلاقل والفتن.

هذا ويمكن التفكير مستقبلا في نطاق هذه التوجهات إلى اعتماد فروع محلية للبلدية، من شأنها الإشراك في الحكم والمساهمة في تسيير الشؤون المحلية، خاصّة وأنّ تراب البلديات كلّها تقريبا قد عرف اتّساعا وامتدادا يفرض على المسيّرين والمنتخبين مثل هذا الحل في أقرب الآجال، ما دام من غير الممكن استحداث بلديات ضمن نفس النسيج العمراني الحالي، ولو أنّ مثل هذا التنظيم الإداري كحل ممكن خارجها وفي التوسعات والأحياء المستحدثة.

وهناك جانب جدير بالدراسة والحل وهو الاكتضاض السكاني، سواء بالنسبة للميزابيين أو لإخوانهم عرب غرداية وحتّى في المدن الأخرى. فلا يمكن الإبقاء على نفس الوضعية التي عرفت غداة الاستقلال أو حتّى إلى السنوات الأخيرة، ففك الحصار عن بعض الأحياء وبخاصّة حيث تواجد الإخوة المتساكنين أضحى لزاما.

ومن الحلول التي كانت مقترحة هي بناء أحياء جديدة بكامل مرافقها خارج سهل وادي ميزاب، إلاّ أنّ السلطات آنذاك رفضتها، فظهر احتلال الأراضي ثمّ البناء الفوضوي مكانها، فأضحت تلك التجمعات العشوائية من المنطلقات للمجموعات والعصابات المهاجمة، ومن أوكار الانحرافات وبخاصّة تجارة المحذرات. فلو أنّ السلطات منحت القطع الأرضية في الإبان، وبالقدر الكافي لنال كلّ المواطنين حظهم، ولتمت البناءات وفق النمط المعماري المعتمد. لكن الضغوطات ألجأت السلطات فيما بعد إلى مثل تلك الحلول المقترحة، فجاءت غير مدروسة، بل وشوهت النسق العمراني الذي اشتهرت به منطقة ميزاب المصنفة عالميا.

فإذا ما كان الميزابيون فكّروا وبدؤوا في تشييد مجمعات سكنية جديدة خاصّة بهم، فإنّه من العدالة فسح المجال أمام مبادرين من الإخوة بمثل هذه المبرّات في الترقية العقارية. لكن مع الأسف فإنّه أمام تجدّد مثل المناوشات والصراعات الأخيرة لا يمكننا إلاّ أن نفكر في صيغة تضمن لنا العيش في هدوء، في شكل أحياء منظمة، ولو أنّنا لا نضطر إلى اعتماد الاختلاط المأمول حقًّا بين كلّ الإخوة، إذ قد تمت تجربته في بريان مثلا،  فلم تنجح، ولم تكن شفيعا لهم أيّام الصراع بل كانت مصدر ندم وحسرة عوض انسجام وتراص وتعايش.

وبعد هذه الجوانب الحسّاسة التي تثير الكثير من الحزازات، ويستغلها العديد من المنتهزين، تبقى عناصر لا بد من الإشارة إليها للقضاء على أسباب الفتن لأنّها من الفتائل التي تشتعل منها وهي:

  •  التوعية الدينية والخلقية لا بالنسبة للأبناء فحسب بل وللكهول والكبار، رجالا ونساء حتّى تترسخ فكرة التعايش لدى الجميع، إذ لا مناص من ذلك. فلا طائفة يمكنها العيش في معزل عن الأخرى أبدا، ولا يمكن تصور عزل ما على أساس طائفي مثلا أو عقدي أو غيرهما، كما قد يتصوره البعض من طالبي الزعامة والتصدر، كما لا يمكن تصور تنظيم للبلديات بتقسيم لها ما دامت إلى اليوم مندمجة والأحياء متداخلة.
  • وبهذا الصدد يجب على قطاع التعليم أن يقوم بكامل رسالته التربوية، والتركيز على القيم الأخلاقية التي هي لبّ الدين الإسلامي، وقوام أيّ مجتمع، وأساس السلوكات الحضارية لأيّ شعب. فإنّما الأمم الأخلاق ما بقيت. ثمّ ترسيخ الروح الوطنية الحقّة لتحصين الناشئة من الأخطار المحدقة بهم وما أكثرها. وبتظافر الجهود في هذا السبيل القويم سنجنّب أبناءنا اتخاذهم كوسيلة لإذكاء الفتن بينهم أوّلا كما لاحظناه مرارا، ثمّ استخدامهم لبلوغ أهداف خبيثة وهدامة، من طرف مغرضين سواء من داخل الولاية أو من المندسين.

وبصفة عامّة يجب تجنيب التلاميذ وقطاع التعليم خاصّة من أيّ صراع أو سوء تفاهم مهما كان، وإبعادهم عمّا يشغلهم عن الدراسة والتحصيل، لتبقى مؤسسات التعليم محترمة، تواصل مهمّتها النبيلة في هدوء واستقرار.

  • التعاون على محاربة مختلف الانحرافات وخاصّة تعاطي المخدرات، لما يعرف الجميع من آثارها الوخيمة على المجتمع وتدهوره، والفتك بشبابه الذي يعدّ دعامته في كلّ المجالات. فالنيل منه هو القضاء المبرم على مستقبله، وتعريضه أن يكون لعبة في أيدي الأعداء، وأداة طيّعة تتّخذ لهدم ما شيّده الأجداد والآباء، وذلك مقصد اللئام الذين يتربصون بالأمم الحيّة وبخاصّة الإسلامية. وما محاولة نشر الإرهاب باسم الدين، وجرّ الشباب إليه في مغامرة يائسة، إلاّ محاولة خبيثة للنيل من كلّ أمّة أو دولة تفطنت للمكيدة.
  • محاولة الحدّ من تطرف الطرفين. سواء الدعوة السلفية التي لا تزال تتّهم المذهب الإباضي وأتباعه بالخوارج، في حين أنّه من صميم السنّة، مثل المذهب المالكي، خاصّة وأنهما يتعايشان في هذه الربوع في انسجام محسود منذ سالف الأزمان، شهد بذلك العارفون المنصفون. ومن جهة أخرى الأمازيغية الملغية للمتساكنين في المنطقة كرد فعل عشوائي غير ذكي و لا مقبول، ذلك أنّ الأمازيغية كانت وستبقى قاسما مشتركا، وإحدى الثوابت الوطنية التي أقرّها الدستور الجزائري، وستُـتَقبّل شيئا فشيئا في المستقبل بلباقة وتأدب. فلا داعي إذن للعنف في كلا الحالتين لفرض وجهة نظر أو قضية ما.
  • وبالمناسبة يجب على كافة الأطراف محاربة بث الشحناء والبغضاء بيننا، ونبذ الحثّ على العنف اللفظي أو الجسدي أو غيرهما، واستعماله لتخريب بعضنا البعض، وإنّما العمل والسعي إلى تشجيع الدعوة إلى الحوار الهادئ والهادف الذي سيمكن من بلورة الأفكـار، والإقناع بالحكمة وبالتي هي أحسن عوض التي هي أخشن.
  • هذا ويجب على الدعاة أن يبتعدوا عن الغلو في الدين، فليس ذلك من توجيهات رسولنا الكريم محمّد صلى الله عليه وسلم الذي ينصحنا بقوله: «إيّاكم والغلو في الدين فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين»، ذلك أنّ الإسلام هو دين التسامح والتيسير والاعتدال. فيجب إذن على الكلّ العمل والتركيز على نقط الالتقاء عوض محاولة إثارة نقط الخلاف، وذلك تفاديا للصراعات العقيمة.

وبصفة عامّة لابدّ على الجميع التفطن خاصّة إلى ما يتربص بنا، حتّى لا نقع في وضعية حرجة، تثير الشفقة بعد أن كنّا في غرداية أو في عموم الجزائر مضرب الأمثال في التعايش والانضباط والخلق الرفيع الذي قد حُسِدنا عليه حقًّا .

 

العطـف يوم:  20  سبتمبر  2014م

 فهرس المقالات :

- مقدمة

- حول بعض الأوضاع المحلية

- حول أحـــداث غردايـــة

- حــــول فتنة بريـان

- حول فوضـــى القـــرارة

- حول أحداث غـــرداية الأخيرة

- الخـــاتمــــة

- الخلاصة: بعض الأفكار الرئيسية والهامّة التي وردت في الكتيّب

 

إضافة تعليق