أنت الآن هنا: الصفحة الرئيسة - وسائط إعلامية - مقالات مكتوبة - الحضور الإباضي في مدينة باتنة وضواحيها منذ الدولة الرستمية حتى استرجاع الاستقلال

مقالات مكتوبة

الأربعاء 6 أوت 2014

الحضور الإباضي في مدينة باتنة وضواحيها منذ الدولة الرستمية حتى استرجاع الاستقلال

أ. لمباركية نوَار

الحضور الإباضي في مدينة "باتنة" وضواحيها

منذ الدّولة الرستمية حتى استرجاع الاستقلال الوطني

الجزء الأول

العدد:5018 ـ الأربعاء 06 أوت 2014 ـ الصفحة:18

لمباركية نوّار ـ باتنة

 

توطئة:

تستوقفني، في البداية، ثلاث ملاحظات لا أرى جواز التكتم عنها أو القفز عليها. وغرضي من الإفصاح عنها هو جعلها سندا لي لتجاوز بعض قيود الحرج  الشاق الذي لا استبعد أن يستجلبه عنوان هذه البحث كما سطرته، وهو: (الحضور الإباضي في مدينة "باتنة" وضواحيها منذ الدّولة الرستمية حتى استرجاع الاستقلال الوطني).

الملاحظة الأولى:

        لا أريد أن يدفعنا عنوان هذه المحاضرة إلى السير في متاهات الغرابة والتعجب البتة، وكأننا أمام اكتشاف جديد، وغير مسبوق؟؟؛ لأن مثل هذه العلاقة / أو العلاقات التي نبحث فيها لا تمثل شذوذا مخالفا أو حالة نادرة. وإن امتداد مثل هذه العلاقة / العلاقات هو أمر طبيعي لاعتبارات عديدة. 

الملاحظة الثانية:

        إن ظهرت هذه العلاقة/ أو العلاقات نامية وبارزة في اتجاه واحد،  فذلك بسبب عوامل اجتماعية واقتصادية وتاريخية فرضت فرائضها على رسمها وتوجيهها، وتحكمت فيها، ولونتها بلون صروف الدهر ومفاجآت الزمان، وحركة ونشاط واندفاع وطموح الإنسان.

الملاحظة الثالثة:

        لئن يُرى بأن صيغة العنوان تحدد التخوم الجغرافية التي سيشغلها الموضوع تحديدا معلّما ومحكما، فإنه في الواقع لا يرسم المدى الجغرافي بصورة مضبوطة في ما يخص عبارة: " ضواحي باتنة"؛ بسبب أن بعض جوانب البحث لا تستجيب إلى معيار التحديد الذي أصبو إليه.  فلفظة "الأوراس"، مثلا،  التي تسببت في بروز هذه الملاحظة المنهجية يطرح إشكالا ذا جانبين تصعب السيطرة عليهما: جانب الحيز المكاني وجانب الاستقصاء البحثي.  واستطرادا من أجل التوضيح،  فإن بقعة "الأوراس" التي تذكرها الكتب القديمة قد انحسرت عما كانت عليه. وأرغب الاستفادة من هذه الملاحظة لتبرير بعض اقتباساتي واستشهاداتي إن لوحظ بأنها أقحمت رغما عن العنوان.

 

جذور العلاقة الضاربة في أعماق التاريخ:

في الحقيقة، إن العلاقة بين الإباضيين و"الأوراس"، عموما،  هي علاقة قديمة بدأت مع نشأة الدولة الرستمية الإباضية سنة 160هـ ـ  776م ، والتي تُعد أول دولة  إسلامية ثابتة الدعائم والأركان  في المغرب الإسلامي، وقد جرى  انشقاقها عن الدولة العباسية في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور على يد عبد الرحمن بن رستم الفارسي نسبا، على أغلب الآراء،  والإباضي مذهبا.  واستمرت حتى سقوطها سنة 296هـ ـ 909م على يد الفاطميين بقيادة أبي عبيد الله الشيعي.  وبعد خسوف شمسها التي سطعت مزدهرة ردحا من الزمن، فرّ أنفار منها إلى جبال "الأوراس" المنيعة، واتخذوا منها ملاذات وملاجئ للحفاظ على أنفسهم من التشرد والهلاك، ولصون مذهبهم الديني من الاندثار والزوال(1). وإن استنجدوا بالأوراسيين؛ فذلك لأن هؤلاء ممن يأبون الضيم، ويكرهون الظلم والاضطهاد، ويحفظون العهود، ولا يفرطون في من يقصد ديارهم طلبا للحماية والنجدة. ومنذ كان "الأوراس" الحصين، فهو ملجأ للضعفاء والمضطهدين ولمن سلب منهم الجاه والسلطان والعز.

        يرسم لنا ابن الصغير المالكي المعاصر للدولة الرستمية، والذي عُدّ من ألمع مؤرخيها، وكتب عمن تداولوا الحكم فيها كتابه الشهير: (أخبار الأئمة الرستميين) رغم بغضه المصرح به الذي يحمله في قلبه لهذا الكيان، يرسم لنا صورة ناصعة عن هذه الدولة نستشف منها انفتاح صدرها واتساعه لكل الوافدين عليها في كنف الحرية المعبرة عن المناخ الديمقراطي الذي ساد فيها بمصطلح أيامنا. وهذا ما شجع البربر والعرب والعجم من الانضواء تحت لوائها، إذ يدوّن واصفا ظروف الحياة في ربوعها وتحت ظلالها، قائلا: (قويَّ الضعيف، وانتعش الفقير، وحسنت أحوالهم وخافهم جميع من اتصل به خبرهم، وآمنوا ممن كان يغزوهم، ثم شرعوا في العمارة والبناء، وإحياء الموات، وغرس البساتين، وإجراء الأنهر، واتخاذ الرِّحاء (*)، وغير ذلك. واتسعوا في البلد وتفسحوا فيها، وأتتهم الوفود والرفاق من كل الأمصار وأقاصي الديار.  ليس أحدٌ ينزل بهم من الغرباء إلا استوطن معهم، وابتنى بين أظهرهم، لمِاَ يرى من رخاء البلد، وحسن سيرة إمامه وعدله في رعيته، وأمانه على نفسه وماله، حتى لا تُرى دارٌ إلا قيل هذه لفلان الكوفي، وهذه لفلان البصري، وهذه لفلان القروي، وهذا مسجد القرويين ورحبتهم، وهذا مسجد الكوفيين، وهذا مسجد البصريين)(2).       

ونجد إحدى الشهادات الراسخة عن قدم  العلاقة بين أهل "الأوراس" والإباضيين في ما يقوله المستشرق الفرنسي ويليام مرسييه: (...  ومن حسن حظ بني رستم أن اعتمدوا على أبناء "الأوراس"، وهم رحل يتعاطون الفلاحة، وعلى سكان قرى جبال طرابلس. وكانوا يجدون من بينهم الجند المخلصين والدعاة المتحمسين والمموّلين لخزائنهم بما يدفعونه من ضرائب)(3).

وفي سياق قريب وموسع، يقول رائد الإصلاح وسيده بلا منازع في الجنوب الجزائري الإمام الشيح إبراهيم بن عمر بيوض (1899 ـ 1981م) ـ رحمه الله، يقول: (إننا نحن الميزابيين جزائريون منحدرون من أصل جزائري، ولنا في قلب الجزائر الشمالية آثار عظيمة، وتاريخ مجيد، وذكريات لا تُنسى. ومن ذا الذي ينسى الدّولة الرستمية في "تيارت".

لكن تقلبات الدّهر دفعتنا إلى هذه الزاوية من جنوب الجزائر على أبواب الصحراء، فاستوطناها، ولم تتقطع علاقاتنا بالشمال أبدا، كما أنها لم تتصل بالجنوب أبدا. ويستحيل أن تتغير هذه الحالة فيما يُستقبل من الزمان.

إن حياتنا ومصادر عيشنا ومنابع اقتصادنا كلَّها في الشمال. فالميزابيون كلهم منذ ولادتهم متجهون إلى الشمال منذ أقدم العصور، تشهد بذلك الآلاف المؤلفة من أبناء ميزاب المنبثين في العمالات الثلاث لطلب الرزق بالتجارة، ولتغذية عائلاتهم التي تنتظر بفارغ صبر في ميزاب ما يبعثون به إليها...)(4).

نقرأ في قول الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض ـ رحمه الله ـ إقرارا وشرحا  لعبارة متداولة تجري مجرى الأقوال المأثورة والمتواترة على ألسنة إخواننا الإباضيين، ومؤداها بلهجتهم المحلية: (أَغْلانْ يَشَّردْ سَالتَّلْ )(**)، ومعناها أن النهضة التي شهدتها مدائن وادي ميزاب السبع كانت بفضل ما أدرّته جهة شمال الوطن التي ارتحلوا إليها

بكثافة طلبا للرزق(**).

اضطر الإباضيون إلى مغادرة مدينتهم "إسدراتن": سدراتة القريبة من ورجلان: "ورقلة" التي افتنوا في تعميرها بالدور والقصور، وملئها بالبساتين، بعد أن ضاق بهم جيرانهم ذرعا، وامتلأت قلوبهم عليهم حنقا وحسدا وحقدا،  وخشوا منهم المنافسة والمزاحمة، واستجاشوا عليهم بجـيوش المرابطين، فأجلوهم عنها ليحلّ محلهم الزنوج. وفرض على الإباضيين النزوح إلى جبال "بني مصاب" أو "ميزاب"، ونزلوا بالوادي المحْل الجديب (5). ولما انطلقوا في تأسيس مدائنهم التى تسلقت المرتفعات والتلال والهضبات ،  وحطت عليها كأعشاش النسور، ظل اسم "الأوراس" حاضرا وراسخا في الذاكرة التراثية الجماعية للإباضيين، فاسم مدينة العطف "تجنينت" أولى مدنهم في تلك الفيافي المهجورة، وحسب أحد الأقوال المروية، هو (نسبة إلى بعض العائلات البربرية الزناتية التي سكنت هذه المدينة، وما يزال هذا الاسم تلقب به بعض العائلات في "وادي ميزاب" و"الأوراس"، وهو لقب: "عطفاوي")(6).

وكذلك سارت التخمينات التي أمعنت النظر في مصدر اسم مدينة "بني يسجن" التي يحيط بها جدار حصين إلى اليوم، حيث ترى أن (الاسم الأصلي بربري من "أث إسجن"، وقيل نسبة إلى بعض العائلات التي عمّرت هذه المدينة بحيث نجد عدة عائلات تحمل هذا اللقب إلى يومنا هذا في "وادي ميزاب" و"الأوراس" وتلقب بـ: "إسقني")(7).

 

هود بن محكّم بن هود الهوّاري "الإباضي" "الأوراسي" .. أول مفسر للقرآن الكريم في المغرب الإسلامي

      اكتفى محقق كتاب: "الجواهر الحسان في تفسير القرآن" للشيخ عبد الرحمن الثعالبي بإيراد إشارة خاطفة عن هذا الاسم المنسي في مطاوي التاريخ، ولم يسترسل في التعريف به. ومما قاله عنه: (لم ينقطع سكان هذا البلد الجزائري عن درس القرآن، وحفظه وتفسيره في السلم وفي الحرب، في الظروف اليسرى، وفي العسرى، ابتداءً من أول تفسير قام به هود بن محكّم الهواري)(8).

أما أستاذ اللسان العربي بكلية العلوم الإسلامية بجامعة "الجزائر" بالحاج بن سعيد شريفي، وبعد أن أضاف إلى اسمه نسب "الأوراسي"،  فقد اهتم بسيرة حياته مستندا إلى الاستنباط وتغليب الرأي محتكما إلى الشواهد والاستدلالات من غير جزم لشح مصادر المعلومات ، وكذلك فعل مع والده الشيخ هود الهوّاري الذي امتهن القضاء. ويقول بصدد الأول: (أما قبيلته فهي من قبيلة البرانس البربرية، وقد سكنت بطونها عدة مواطن في إفريقيا والمغرب. فقد جاورت هوّارة قبيلة نفوسة بالجبل الذي ينسب إليها، جنوب طرابلس الغرب، وسكنت بطون منها بلاد الجريد، جنوب الحدود الجزائرية التونسية الآن، وكانت قاعدتها توزر. وسكنت بطون منها جبل أوراس ونواحيه. وهذا الموطن الأخير هو الذي يعنينا في موضوعنا)(9).

ويواصل قائلا: (في تلك المواطن من جبال أوراس وما يحيط به، وفي كنف هذا الوالد الورع التقي، القاضي الحازم، وتحت رعايته، نشأ عالمنا الشيخ هود بن محكّم الهواري. إننا لا نعرف بالتحديد عام مولده، ولكننا نقدّر أن يكون في العقد الأول أو الثاني من القرن الثالث الهجري. والذي يبدو لنا أن يكون قد أخذ العلم، أولا، في مراتع طفولته ومرابع صباه عن والده، بعد حفظه لكتاب الله. وأنه قد تفقّه في مجالس العلم وحلقات الدروس التي كانت تعقد بالمساجد في القرى الجبلية أو في البوادي، و حتى في المغارات إذا اختل الأمن، واضطربت الأمور، وخيفت الفتن)(10).

ويضيف في موضع قريب من الاقتباس السابق،: (وفي ظل هذه الحياة يكون الشيخ هود قضى فترة صباه، وشيئا غير قليل من شبابه في بلده، وفي موطنه بأوراس يكون قد أخذ جل علومه. فهل خرج الفتى هود من بلده في رحلة لطلب العلم؟. أنا لا استبعد ذلك، بل إنني أميل إليه، وأكاد أجزم به. ذلك أن مركزين عظيمين كانا في ذلك العهد بإفريقية يشعان بأنواع المعرفة عامة، وبالعلوم الدينية خاصة، وأعني بهما: القيروان وتيهرت)(11).

        وأما عن وفاته، فيقول: (أما عن وفاة الشيخ هود، فلم تذكر أيضا بالتحديد في أي مصدر. وأقدّر أنها كانت في العقد الثامن أو التاسع من القرن الثالث الهجري، أي حوالي سنة ثمانين ومائتين. فإن كل ما ذكره من المؤرخين وكتاب السيّر، يؤكد أنه من علماء الطبقة السادسة "250 ـ 300 هـ". فهل أدرك نهاية الدولة الرستمية سنة ستة وتسعين ومائتين للهجرة؟. أنا استبعد ذلك، ولكن لا استطيع أن أجزم بشيء في الموضوع)(12).

 

الهوامش والإحالات

 (1) ـ حسب ما ورد في بعض كتب التاريخ.

(*)ـ الرِّحاء مفردها: الرّحىالذي يجرش مختلف الحبوب بفضل الطاقة المتولدة عن جريان الماء.

(2) ـ معمر علي يحي ـ الإباضية في موكب التاريخ ـ الحلقة الرابعة: الإباضية في الجزائر ـ الجزء الأول ـ المطبعة العربية "غرداية" ـ الصفحة: 14.

(3) ـ جوليان شارل أندري ـ تاريخ إفريقيا الشمالية ـ تونس، الجزائر، المغرب الأقصى ـ من الفتح الإسلامي إلى سنة 1830م ـ تعريب محمد مزالي والبشير بن سلامة ـ الدار التونسية للنشر ، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ـ الجزائر ـ الطبعة الثالثة ـ الجزء الأول ـ الصفحة: 42.

(4) ـ بيوض إبراهيم بن عمر  ـ أعمالي في الثورة ـ نشر جمعية التراث ـ القرارة "غرداية" ـ الصفحة 72.

(**) ـ أغلان باللهجة الميزابية المحلية هو: الموطن. وهم على خلاف بقية اللهجات البربرية في الجزائر يقلبون حرف"الكاف" إلى حرف "التاء".

(5) ـ محمد الجيلالي عبد الرحمن ـ تاريخ الجزائر العام ـ ديوان المطبوعات الجامعية "الجزائر" ودار الثقافة بيروت "لبنان" ـ طبعة جديدة مزيدة ومنقحة ـ 1982 ـ  الجزء الثاني ـ الصفحة: 176.

(6) ـ أعوشت بكير بن سعيد ـ وادي ميزاب في ظل الحضارة الإسلامية: دينيا، تاريخيا، اجتماعيا ـ المطبعة العربية "غرداية" ـ 1991م ـ الصفحة: 66.

(7) ـ نفس المرجع السابق ـ الصفحة: 69.

(8) ـ الطالبي عمّار"دكتور" ـ الجواهر الحسان في تفسير القرآن ـ للشيخ سيدي عبد الرحمن الثعالبي ـ المؤسسة الوطنية للكتاب ـ الجزء الأول ـ الصفحة "أ" من المقدمة.

(9) ـ شريفي بالحاج بن سعيد ـ تحقيق تفسير كتاب الله العزيز للشيخ هود بن محكّم الهواري "الأوراسي" ـ دار البصائر للنشر والتوزيع "الجزائر" ـ الطبعة الثانية ـ الجزء الأول ـ الصفحة: 13.

(10) ـ نفس المرجع السابق ـ الصفحتان: 17 و18.

(11) ـ نفس المرجع  ـ الصفحتان: 18 و19.

(12) ـ نفس المرجع ـ الصفحة: 23.

 

الجزء الثاني

العدد:5019 ـ الخميس 07 أوت 2014 ـ الصفحة:19

 

 

الوجود الإباضي في مدينة "باتنة" وضواحيها قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر

        يعود استقرار عائلات إباضية في قرية "تازولت" إلى سنة 1512م، أي قبل دخول الأتراك إلى الجزائر بأزيد من عقد ونصف العقد من الزمن. وقد شجعهم على النزول فيها  قبل مدينة "باتنة"، كونها، أولا، مدينة رومانية قديمة  سبقت في الوجود مدينة "باتنة" التي تأسست في سنة 1844م في موقع يبعد عنها بحوالي عشر كيلومترات ، ولأنها، ثانيا، كانت عاصمة تجارية  فيها سوق رائجة وشهيرة من أكبر أسواق الشرق الجزائري. وكانت تنعقد كل يوم ثلاثاء، و تباع فيها المحاصيل الزراعية السنوية والغلال الموسمية، كالقمح والشعير وصنوف التمر المستقدمة من واحات النخيل في الجنوب. وأما في بقية أيام الأسبوع، فتفرغ السوق، ويجوب الباعة المتجولون المؤقتون والموسميون قرى "الأوراس" ومداشره ودواويره وقلاعه للابتياع والمبادلة.

جاءت العائلات الميزابية الأولى التي استوطنت قرية "تازولت" من "مليكة"، وهي المنتمية إلى: آل فرصوص، آل بعمارة وآل شرع الله. ورافقهم في المجيء عائلات أخرى جاءت من مدينة "القرارة"، وهي من: آل بوسحابة، آل بولحية، وآل صالح بن لخضر. وما تزال دار تعرف ، إلى اليوم، باسم: "دار بني ميزاب" في "تازولت" جعل من أحد محلاتها مصلى تنعقد فيه الصلوات الخمس جماعة.

      بعد زحف الاستعمار الفرنسي على منطقة "الأوراس"، وتأسيس مدينة "باتنة" التي شيدت كمعسكر للجيش الفرنسي، والبدء في تعميرها من طرف السكان الأصليين، دخلتها أولى العائلات الإباضية في سنة 1848م من بعد أن تأسست فيها سوق نشطة في يومي الاثنين والثلاثاء من كل أسبوع في حي "المعسكر". ولما وجدت سوق قرية "تازولت" نفسها منفضة الجموع وغير مقصودة إثر غروب صيتها وسمعتها، انكمشت الحركة فيها حتى ألغيت. وكانت العائلات الإباضية التي سبقت إلى حط رحالها في مدينة "باتنة" ذات الطراز المعماري الأوروبي هي عائلات: آل بعمارة، آل القيرع، آل شرع الله. وأسست بها عائلة بربوشة أولى شركة تجارية. وتنتمي هذه العائلات إلى "مليكة". وقصدتها من مدينة "القرارة"، عائلات: آل بولحية، آل بوسحابة، آل صالح بن لخضر، آل أبو العلا، آل يحي وأحمد، وعائلات من ألقاب: لَعْصَبين، أزقاو، مجاهد، بوقرينات وأوجانة.

        استمرت العائلات الإباضية التي سكنت  مدينة "باتنة" للاشتعال في المجال التجاري نظرا لولع الإباضيين بالتجارة وتفوقهم فيها منذ أيام الدولة الرستمية، ففتحوا الحوانيت والدكاكين وملأوا المخازن والمستودعات. وكانوا هم أول من افتتح أول حمام جماعي في حي "المعسكر" من طرف آل بعمارة، ثم ألحقوه بثان في نهج "Fedherbe" سابقا، من قبل آل شرع الله، وبثالث في شارع فيكتور هيغو، سابقا، هو ملك لآل قيرع. وكان من أسباب ازدهار تجارتهم وأتساعها وتنوعها في مدينة "باتنة" تنامي علاقاتهم مع تجار مناطق الصحراء كـ "بسكرة" و"وادي ريغ" و"ورقلة"، وخاصة مع التاجر ذائع الصيت في مدينة "بسكرة" عفاري الميزابي (13).

        استمال التجار الإباضيون قلوب سكان مدينة "باتنة" وضواحيها، وكسبوا مودتهم بفضل أخلاقهم العالية في التعامل المبنية على الصدق والوفاء والسماحة والتسامح في البيع والشراء، واللين الفطري في الخدمة، والنزاهة في الكيل والميزان، وحفظ الودائع والأمانات، وردها إلى أهلها حين طلبها، واحترام المواعيد، ومبارحة الغش، وترك كل صنوف التحايل والغدر ونقض العهود ومخالفتها، والإعراض عن الربا وأكل أموال الناس بالباطل، واحترام أوقات إخراج الزكوات، وقرض من يحسنون الظن فيه.

 

دور الحاج يحي زواي الإباضي في استرجاع أراضي ضيعة "لمدينة القديمة" بعد ثورة 1879م:

يمكن اعتبار ثورة 1879م في "الأوراس" فصلا مهما من فصول مقاومة الاحتلال الفرنسي مقاومة شعبية صلبة لم تعرف التململ والتراجع، ووقوفا في وجه مخططاته الماكرة. ولكن، لما منيت هذه الثورة بالهزيمة والانكسار، وفرار قائدها محمد بن عبد الرحمن بن جار الله المعروف باسم:  "محمد أمزيان"، والمكنى بـ "أبي برمة"، أي: "بوثقنوشت" صوب أرض "تونس" بحثا  عن حبل النجاة  لنفسه وبعض شيعته وأعوانه الذين رافقوه، لجأت، فرنسا، التي تحسن نسج شراك الانتقام وحيل التنكيل إلى ترحيل مجموعات من السكان الذين ثار غبار هذه الثورة على أراضيهم ، وتجريدهم من ممتلكاتهم، وتعمير قراهم ومداشرهم بالمستوطنين الأوروبيين الغرباء المستقدمين من وراء البحر لخلخلة انسجام وتناسق التركيبة البشرية للمنطقة. وجلبت إلى ضيعة "لمدينة القديمة" قسا داهية متضلعا في الختل والخبث. ولما أفضت محاولاته السافرة والمتأرجحة بين الترغيب والترهيب إلى فشل ذريع وخيبة مريرة، يئست فرنسا وقررت الخروج من المنطقة. وبعد أن استفادت من خيرات أراضي "الضيعة" لمدة أشرفت عن نصف قرن من الزمن، عرضتها للبيع في المزاد العلني سنة 1928م في مدينة "قسنطينة"، وروج الإعلان في الجرائد، وقررت تسع عائلات من قبيلة "التوابة "، وهي  من مالكيها الحقيقيين استرجاعها عن طريق الشراء، وهي: ابن شائبة، ابن عكشة، أوراغ، بوسعد، تيماقولت، عثامنة، عزوي، قرزة وزاوش. وكادت هذه الأراضي الخصيبة أن تذهب إلى جهة أخرى بسبب عدم توفر نصيب المال المشروط لاستردادها لولا مساعدة الحاج يحي زواي صاحب مصنع العطور المعروف في حي "باب الواد" في "الجزائر العاصمة". فقد قبل هذا المحسن قرضهم مالا لاسترجاع أملاكهم المسلوبة على أن يكون له نصيب "العُشر" من غلال أراضي "الضيعة"، واتفقوا أن تسدد له الديون تقسيطا على مدار تسع عشرة سنة (14).

 

ذكر بني ميزاب في شهادة الشيخ سيدي محمود بن سيدي محمد عبد الصمد عن ثورة 1916 في "الأوراس":

      دوّن الشيخ العلامة المربي والفقيه والشاعر سيدي محمود بن سيدي محمد عبد الصمد (1852م ـ 11 جويلية 1952م) تدوينات تاريخية قليلة عاصرها أو كان شاهدا عليها في كناش زاوية أجداده التي انتصبت في فج من فجاج جبل "بوعريف" المطلة من الناحية الشمالية على مدينة "باتنة"، ومنها مقالة واحدة دعاها: "الرحلة الوطنية والأخبار الحديثة" خصصها للحديث عن ثــورة 1916مفي "الأوراس" التي تدعى، كذلك، بثورة: "عين التوتة". وكان حينها من بين العشرة المعينين من طرف الإدارة الفرنسية للنظر في بعض القضايا التي تخص السكان الجزائريين الأصليين، ومن ذلك قبول فئات من الشباب الجزائري  للتجنيد في الجيش الفرنسي تجنيدا إجباريا وفق القانون الذي سُنّ في سنة 1912م. ويقول في حديثه عن الصباح الذي تلا ليلة اندلاع هذه الثورة التي شاهد آثارها: (ولما دخلت الفيلاج ( (***، رأيت الكومندان والطبيب والأجودان ومعهم العسكر الذين باتوا يطوفون، فقال لي مثل ما قال "المير". ودخلت إلى السوبريفي وهو يتقلب بين العساكر الممرضين له، وعينه اليمنى مسدودة ومنتفخة، وفوق شاربه جرح خفيف،  وهو في لباس النوم. ولما خرجت من عنده إلى سكك "كذا" الفيلاج، وجدت نحو أربعة أو خمسة من الأهالي مقتولين، ونظرت إلى مخازن بني ميزاب،  فلم أجد فيها أصلا شيئا، والأبواب منكسرة والحبوب منثورة. وبعد مدة، وجدت شخصا من "بني ميزاب" أعرفه يقال له سي أعمر بن حمّودة وله سنين عديدة في عين التوتة، فقلت له هل عرفت أحدا من الذين اقتحموا "الفيلاج". فقال: نعم، هم "الخذران" و"أولاد سلطان". أما خليفة الحاكم "كارلي"، لما قدم إلى دوار "أولاد عوف"، بات عندهم، فظننا أنه مـات)(15).

        تُظهر هذه الشهادة التي عايشها الشيخ سيدي محمود عبد الصمد عن ثورة 1916م، و التي جرت في "الأوراس" مهد الثورات، وكتب فصولها وأطــوارها كما تبدت أمــام عينيه أو بلغت مسمعه، تظهر اشتراك أبناء الشعب الجزائري في تقاسم المصائب في أوقات البلاء.

 

أثر زيارة الشيخ إبراهيم بيوض لمدينة "باتنة" في زمن استفاقتها الإصلاحية

      إن المعلومات التي تخص هذه الزيارة التي قادت الشيخ إبراهيم بن عمر بيّوض ـ رحمه الله ـ إلى مدينة "باتنة"شحيحة، ولا استبعد أن تكون قد فرضتها معاينة الحراك الإصلاحي الذي كان يعمّ القطر الجزائري بفضل الجهود المبذولة من طرف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ومتابعة وتقويم الخطوات التي قطعتها. ومثلما يحتمل أن تكون قد تمت بتكليف من جهة مشرفة، فلا يستبعد أن تكون وليدة مبادرة شخصية تجمع بين التفسح ضربا في الأرض وحب الاستطلاع. وقد وردت أخبار هذه الزيارة مقتضبة في تقرير أمني أعده وأرسله رئيس أمن "باتنة" إلى رئيس دائرتها في يوم 25 ديسمبر 1934م. ويشير فيه إلى أن إعداد هذا التقرير ينسجم مع التوجيهات الأخيرة التي تفرض مراقبة شديدة ومتابعة مكثفة لتحركات  الأهالي، كما سمّاهم. ويسجل أن عدد سكانهم  كان في ذلك الزمن معادلا لـ 8500 نسْمة.

يمنح هذا التقرير ذي الطابع السري عناية ملفتة  لنادي "الإصلاح" الذي أسسته شعبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في مدينة "باتنة"، مما يدل على  أنه كان واحدا من مقلقات الإدارة الفرنسية في مدينة "باتنة". وقد ورد في هذا التقرير بشأنه ما يلي: (ما انفك نادي "الإصلاح" يتحسن يوما بعد يوم. وقد أصبح مزوّدا بالتسخين المركزي، وبجهاز لالتقاط الإذاعات. ونجد به مكتبة وافرة وغنية بإنتاجات فكرية حرة، وروايات لمختلف المؤلفين أين تسيطر مؤلفات "بيار لوطي" ( (****، وبها اليوميات الجهوية الرئيسة المنشورة باللغة الفرنسية التي توزع بانتظام، وتصل، أيضا، "وبعضها من أجل التوزيع" كل الصحف الجهوية  وغيرها، التي تنتقد الإدارة الفرنسية والمكتوبة باللغة الفرنسية واللغة العربية ، مثل: "الدفاع"، "ضربة الخيزران"، "Tam Tam"، "الشعب الجزائري"، "الثبات".

قُلصت، منذ مدة قصيرة، اشتراكات أعضاء النادي، وأصبحت تتراوح بين خمس وثلاث فرنكات في الشهر.

يَعمُر النادي أشخاص تتراوح أعمارهم بين أربع سنوات وعشرين سنة من أجل المطالعة أو لعب الدومينو أو البليار أو الورق أو ألعاب أخرى.

يشار ، أيضا، إلى أن الميزابيين، ومنذ فترة قصيرة،  باتوا يبحثون عن مصاحبة الأهالي في مدينة "باتنة". وأن بعضا منهم يأتون بخجل إلى نادي "الإصلاح"، وخاصة منذ أن جاء من الجزائر المدعو بيوض  شيخ جماعة العلماء  الميزابيين إلى مدينة "باتنة"، والذي شجع هؤلاء الأخيرين على التآخي مع الأهالي) (16).

 

الهوامش والإحالات

(13) ـ أخذت هذه المعلومات مكتوبة بواسطة الدكتور محمد حمدي  من المجاهد المتقاعد مسعود بن محمد باحمانيمالك مصنع الصوف، سابقا، بمدينة "باتنة".

(14) ـ عزوي محمد الطاهرـ مقاومة الأوراس في القرن 19 ـ من1837م إلى 1879م ـ مجلة "التراث" ـ إصدار جمعية التاريخ والتراث الأثري لمنطقة الأوراس  ـ العدد: 1 ـ ذو القعدة 1406هـ، يوليوز 1986م ـ الصفحة 74.

(***) ـ يقصد بـ "الفيلاج" قرية: "عين التوتة" الذي جاءه الشيخ صباحا بعد أن قضى ليلته في دوّار "معافة" القريب عند صديقه "حمّة خندودي".

(15) ـ بندقية من جبل بوعريف ـ مذكرات الملازم الثاني المجاهد محمد الصغير عبد الصمد ـ تحرير لمباركية نوّار ـ مؤسسة المختار للطباعة والنشر ـ باتنة ـ الصفحة 55.    

(****) ـ بيار لوطي: Pierre LOTI  (14 جانفي 1850 ـ 10 جوان 1923م)، هو كاتب فرنسي، امضى عمره ضابطا في جيش البحرية.

(16) ـ في حوزتي نسخة من هذا التقرير الذي يقع في صفحتين.

 

 

 الجزء الثالث والأخير

العدد:5020 ـ السبت 09 أوت 2014 ـ الصفحة:18

 

حضور وفد من الإباضيين تدشين مدرسة "النشء الجديد"بباتنة"

      تعتبر مدرسة "النشء الجديد" أول مدرسة عصرية عربية اللسان تشيد في مدينة "باتنة"  لتعليم أبناء الجزائريين مختلف العلوم بلغة وطنهم. وقد ساهم سكان مدينة "باتنة" وضواحيها بأموالهم التي اقتطعوها من خبر أبنائهم . وفي يوم تدشينها الذي جرى في الأسبوع الأول من شهر سبتمبر من سنة 1954م، أي قبيل اندلاع الثورة التحريرية المجيدة بفاصل زمني يقل عن شهرين، حضرت وفود من مختلف مدن وقرى القطر الجزائري. وقد حدّثني الشيخ بالحاج محمد بن بابة المعروف باسم: "الشيخ بن الشيخ" عن حضوره برفقة الشاعر والأديب صالح الخرفي ـ رحمه الله ـ يوم: "باتنة العظيم"، كما دعاه الشاعر المغرد محمد العيد آل خليفة (17).

       

الشيخ سعيد شريفي "عدّون" في قرية "سريانة"

      كُتب للشيخ سعيد شريفي المعروف باسم: الشيخ "عدّون" (1902 ـ 2004م)، وهو رفيق الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض في مسيرة الحركة الإصلاحية في الجنوب الجزائري التي انطلقت من حاضرة العلم مدينة "القرارة"، كُتب له أن يقضي شطرا من زمن شبابه الأول في قرية "سريانة" القريبة من مدينة "باتنة" عاملا مساعدا في أحد المتاجر. وقد ردّ عن أسئلتي حول هذا الموضوع الشيخ الفاضل بكير بن محمد الشيخ بالحاج في رسالة خطية  لطيفة غير مؤرخة  بعد مقابلته للشيخ "عدّون" ـ رحمه الله ـ ، و يقول فيها:

(بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله محمد وآله وصحبه.

أخي في الله: الأستاذ الكريم لمباركية نوّارالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. تحية طيبة مباركة خالصة يبعثها إليكم أخوكم الذي لا ينساكم أبدا، ولا تمحي من ذاكرته ذكريات حلولكم بالقرارة ضيفا كريما بين ظهرانينا.

        وبعد، فقد تسلمت بكف الغبطة والسرور رسالتكم الكريمة، وابتهجت بها، وبلغت سلامكم لفضيلة شيخنا وأستاذنا عدّون بن الحاج شريفي. وهو يحييكم بمثلها، وبأحسن منها.

أخي العزيز:

لقد كانت رسالتكم على مكتبي طوال هذه المدة نصب عيني، وأنا أرقب فرصة لإجابتكم. ولكن تراكم الأشغال، وفي مقدمتها الاختبارات السنوية، وما تتقاضاني من جهد، على غيرها، كل ذلك حال دون التعجيل بالإجابة. فمعذرة. والعذر عند كرام الناس مقبول. هذا عن المكاتبة.

أما عن مقابلة الشيخ عدّون، ومحاورته في شأن الفترة التي قضاها في مدينة "سريانة"، فقد قمت بها فور اتصالي برسالتكم، ولكن تبييض ما سوّدته أثناء مقابلته في شأن حياته في الفترة المشار إليها، وعن بعض التفاصيل التي تفضلت  بالسؤال عنها مما له علاقة بهذه الفترة، فإنني لم أتمكن منه إلا مؤخرا. (ولله الأمر من قبل ومن بعد).

أخي العزيز: دونك بعض هذه المعلومات، ولعلها مع وجازتها تفي ببعض المقصود:

 سافر من القرارة وهو ابن عشر سنين إلى مدينة سريانة بتاريخ 02 جويلية 1912م. ومكث بها إلى غاية شهر مارس من سنة 1915م، وهي الفترة الأولى.

كان الدافع لاغترابه وتحمله مشقة العمل رغم صغر سنه شدة الفقر والحاجة. وسافر ليعمل على تحمل أعباء نفقات أسرة تركها والده من دون مال ولا معيل، بل مات وعليه ديون.

كان أثناء هذه الفترة يتلقى بعض الدروس في المدرسة الفرنسية خلال أربعة أيام في الأسبوع، ويعمل في بقية يومه، أيام الدراسة، وفي بقية الأيام التي لا دراسة فيها. ومع هذه الدراسة الناقصة كما وكيفا، وهي خير من لا شيء، "خير من بلاش"، كان يضطر في يوم السوق الأسبوعي لمدينة "سريانة "يوم الثلاثاء  للتخلف عن الدراسة لمساعدة عمال المتجر من كبار أرباب الدكان: المعاليم باللغة العامية وصغار الصناع: بلغتنا. والذي كان يتراوح عددهم بين ستة وثمانية. وكان الدكان الذي يشتغل فيه هو أشهر دكان في" سريانة". ولم يكن فيها حسب ما يذكر الشيخ إلا دكانا صغيرا لأحد الميزابيين، وآخر لأحد إخواننا من بلاد القبائل.

ولم تتجاوز فترة دراسته سنتين وخمسة أشهر.

السنة الدراسية 1912م/1913م،

السنة الدراسية 1913م/1914م،

السنة الدراسية 1914م وجزء قليل من سنة 1915م.

والفترة الثانية لإقامته في "سريانة"، امتدت ما بين شهر ديسمبر 1915م إلى أواخر مارس 1919م. وقد انقطع بشكل كلي عن الدراسة ليتفرغ للعمل في الدكان تحت وطأة الحاجة الملحّة، كما تقدّم.

عاد إلى القرارة، وتزوج في شهر أفريل من عام 1919م. هذا ملخص عن فترة استقراره في سريانة، وعن عمله فيها.

أما من قابل أو عرف من رجال "الأوراس" في "سريانة" أو ضواحيها، فقال: أنه يتذكر اسم الشيخ علي فردي شيخ زاوية "مول القرقور". وكانت تبعد عن سريانة حوالي خمس كيلومترات في الطريق الذاهب إلى "باتنة"؟؟( (*****. ويتذكر اسم الشيخ "قامة"، وهو شيخ أحد الدواوير الثلاثة التي تتمركز حول "سريانة". ولا يعرف منهم ـ بحكم صغر سنه، وعدم مخالطته الكثيرة للناس ـ شيئا غير ما ذكر.

كان كثير التردد على مدينة "باتنة"، ويقصد دكان السيد الحاج عاشور بالحاج بن الحاج الناصر (أحد أعيان عشيرة الشيخ عدّون بالقرارة). يتوجه إليها أحيانا للعلاج، وأحياء لقضاء بعض المناسبات كمناسبات الأعياد الشرعية ترويحا عن النفس وطلبا للاستجمام.

        والفترة التي قضاها في "سريانة" هي من مجموع فترة الاستعمار الغاشم الذي عزل الناس عن كل نشاط سياسي أو ثقافي.

يذكر أنه وقعت ثورة في بعض الناطق الجبلية. ولكن سرعان ما قضت عليها السلطة الحاكمة. ولم يكن لها كبير أثر( (******.

        كانت تصل إلى "سريانة" "إلى دكانهم" صحيفة "الزهراء" من تونس، وهي صحيفة سيـاسية إخبارية. وكان يراها عند خاله السيد جهلان أحمد بن الحاج سعيد. وكان له شيء من المعرفة باللغة العربية.

لا يذكر من شيوخ الإباضية الذين استقروا في منطقة "الأوراس" إلا الشيخ "باعتبار ما سيكون" الحاج عمر بن يحي ويزو. وقد عاش في مدينة ؟؟؟؟ على مثل حال الشيخ أو الشاب عدّون شريفي، عاملا بسيطا لا يملك من أسباب الثقافة شيئا. ولكن كلا منهما ينقطع عن العمل ويعود إلى مسقط رأسه يستقبل الحياة الثقافية من جديد في أخريات العقد الثاني من عمره.

كان ذلك منعرجا مهما في حياته: شمّر عن ساعد الجد، ووصل الليل بالنهار في طلب العلم. وسرعان ما ظهرت آثر النبوغ عليه. وقطف بعض ثمار الجد وصدق النية في تحصيل العلم. وكان للشيخ "عدّون" دور رئيس في تأسيس "معهد الحياة". فإذا كان المؤسس هو زعيم الحركة الإصلاحية الشيخ بيوض، رحمه الله. ولكن القلب النابض، والدافع القوي، والمحرّك الفعال، والعضد الأيمن هو الشيخ "عدّون" إلى طائفة من المشايخ والعاملين بإخلاص في هذا الميدان(17).

 

الشاعر الصالح الخرفي في مدرسة "التربية والتعليم" في مدينة "باتنة"

يذكر المرحوم الشيخ محمد عبد القادر العوبي (1924 ـ 2005م) أنه زامل في فترة تتلمذه في مدرسة "التربية والتعليم" في مدينة "باتنة" التي كان لوالده الشيخ الحنفي العوبي (1875 ـ 1976م) يد طولى في تأسيسها مع آخرين، يذكر أنه زامل في الدراسة التلميذين يحي بوهون ويوسف بوهون، وهما إباضيان من قاطني مدينة "باتنة". في حين لم يعد يذكر صورة الفتى صالح الخرفي الذي كان واحدا من تلاميذ هذه المدرسة في تلك الفترة(18).

ولد المرحوم الشاعر صالح الخرفي في مدينة "القرارة" جوهرة مدائن "وادي ميزاب" السبع سنة 1932م. ومن خلال التذييلات والشروحات التي زوّد بها كتابه: "من أعماق الصحراء"، بات مؤكدا أن انطلاقته التعليمية الأولى كانت في مدرسة "التربية والتعليم" بمدينة "باتنة"، إذ ارتشف في فضائها أعذب رضاب الحروف الهجائية باللغة العربية وأنقاها ممزوجا بصبا ذرى جبال "الأوراس" الشُّم، وأريج أزهار حقولها ومروجها. فلما بلغ عمره سبع سنوات، ولج مدرسة "التربية والتعليم" في مدينة "باتنة"، وقضى بها سنتي 1939 و1940م. ويقول في هذا السياق مسترجعا شقا من سيرته الذاتية في صباه: (كان التحاقي بالقسم الخامس في مدرسة الحياة سنة 1941 بعد سنتين ابتدائيتين في مدرسة التربية والتعليم في باتنة، وهي من المدارس الحرة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وأذكر من بين مشائخي فيها الشيخ "القمقوم" ابن عيسى العربي.

وكان العم ـ رحمه الله ـ محمد بن الحاج عبد الله الخرفي يزاول التجارة في "باتنة". والعم هو المربي والوالد الروحي، وصاحب الأفضال عليّ في تحريري من مسؤولية التجارة، وتفريغي لطلب العلم رغم حاجته الماسة والملحة إلى ذلك)(19).

يقع حانوت عم الشاعر صالح الخرفي في قلب مدينة "باتنة" القديمة، في شارع "قامبيطا" سابقا، أي شارع "الفدائيين" حاليا قبالة السوق البلدي المغطى والمسرح الجهوي. في حين كان السكن العائلي متواجدا في حي "المعسكر"، وهو أقدم أحياء مدينة "باتنة".

لاشك أن السنتين اللتين قضاهما الشاعر صالح الخرفي ـ رحمه الله ـ في مدينة باتنة قد تركت في نفسه أثرا طيبا، رغم أن قصر مدة الإقامة لم تسمح بتوثيق الصلة بين المدينة وساكنها من جهة، وبين مدرسة "التربية والتعليم" وتلميذها النجيب، من جهة ثانية. ولم يكن الشاعر جاحدا ومتنكرا لجميل مدينة "باتنة" ومدرستها الحرة، ولأفضالهما عليه، إذ كيف ينسى الوليد أول ثدْي رضع منه أخلص لبن، وأنفس خُثارة؟؟. وفي قصيدة "إخوة وجوار" المحمولة في كتابه سابق الذكر "من أعماق الصحراء" يصوّر لنا صورة ناصعة البياض عن تلك الأيام الخوالي التي نهم فيها أحلى قطيرات نُسغ العربية وأعذبه، وفيها يقول:

حيّ (تقرت) واحتسب لك أهــــــــــــــــــلا    

 حيّ (بسكرة) بعــــــــــــــدها، حيّ (باتنة)

 هي مرعى الصبا، وبين يديـــــــــــــــــــه    

لحروف الهجاء، أصبح معنـــــــــــــــــــى

كان شيخا من (القبائل)، فـــــــــــــــــــردا

خضب الشيب بالوقار، وحنّـــــــــــــــــــى

لقبوه (القمقوم) لفتة عــــــــــــــــــــــــــز

وهو، في العــــــــز، بـ(ابن عيسى) يكنّـى

جمعتني به بـ (باتنة) الأمــــــــــــــــــــس

صفوف، في دوحة العلم، تبنـــــــــــــــــى

من مغاني (جمعية) هالها القُطـــــــــــــــر

فهبت تبنيه، ركنا فركنــــــــــــــــــــــــــــا

وهو في (برنس) الوقار، يــــــــــــــداري

فلذات الأكباد، حسا ومعنـــــــــــــــــــــــى

ذاك شيخي، من (أيت داود)، سلــــــــــني

بذرى (جرجرا)، ألا أتغنـــــــــــــــى؟؟(20)

 

علاقة وإتصال الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض بمجاهدي الولاية الأولى أثناء الثورة التحريرية

يذكر الشيخ إبراهيم بيوض في كتابه: (أعمالي في الثورة) الذي نقل من أوراق مسوّدة كتبها بنفسه في حين سريان الأحداث التي عايشها ، يذكر قائلا: (عملت كثيرا أيام الثورة الأولى مع الريحاني، وكان يحدثنا عن ذهابه إلى "الأوراس" ورجوعه واجتماعه بالمجاهدين. وأن كل ما جمعناه يوصله إلى الأوراس. وكنا نصدقه. ولم يكن في أيام الثورة الأولى فرق بين حزب وحزب، العمل لإنجاح الثورة وكفى. وما ندري بنيته والله يتولى أمره إن كان قد خدعنا)(21).

ويذكر، كذلك، قائلا: (في أواسط السنة ـ يقصد سنة 1955م ـ ، قدم علينا جغابة محمد بواسطة أولاد الخبزي من بسكرة، فاتصلت به كما اتصل به إخوان آخرون، وتعاهدنا على العمل معا. وذهب ليستقر في متليلي التي يتخذها مركزا ، كما قال. ولم يلفت قدومه الأنظار؛ لأنه أتى في زي مدني كأعرابي من البادية)(22).

كانت للشيخ إبراهيم بيوض اتصالات مكثفة بعدة مناطق أثناء الثورة التحريرية. ولما كان رجلا عمليا وحازما وصادقا في مناصرته لتحرير وطنه من براثن الاستعمار الغاشم الذي جثم على صدره، فقد حمل نفسه مشقة المجيء إلى مدينة "باتنة" في شهر جوان 1955م،  ومقابلة بعض المسؤولين عن الثورة بمنزل السيد سليمان بوعصبانة عمر بن الحاج إبراهيم مع محمد بن يحي، وهم المجاهدون: سعادة إبراهيم ومحمود الواعي ودردوري محمد الهاشمي(23).

 

حوصلة واستنتاجات

        يتبن لنا من خلال هذه المتابعة الوجيزة أن الحضور الإباضي في مدينة "باتنة" وضواحيها كان حضورا متواصلا لم يعرف الانقطاع منذ عهد الدولة الرستمية ولو تباينت شدة وتيرته بين زمن وآخر، وأن تعاقب الأيام لم يزده إلا تكاثفا وتفاعلا. ويظهر أن العلاقة الوطيدة بين الإباضيين والأوراسيين هي كما عبر عليها الشيخ بكير بن محمد الشيخ بالحاج في الرسالة التي بعثها بها إليّ علاقة ذات جوانب عديدة. وأما أهم الاستنتاجات التي نبلورها، فهي:

1 ـ إن الحضور الإباضي في نواحي "باتنة" من قرى  ومداشر كان أسبق من المجيء إليها لكونها مدينة متأخرة النشأة والتشييد.

2 ـ إن موقع وبساطة مدينة "باتنة" التي جمعت بين الطابع الريفي المتواضع والتمدن

الحضاري المعتدل شجعت الإخوة الإباضيين للتوافد عليها، والعيش بين سكانها الذين يأنسون بغيرهم في هدوء وسكينة.

3 ـ إن التواجد الإباضي في مدينة "باتنة" وضواحيها لم يكن منمطا من حيث أهدافه وغاياته، كما يعتقد ويختصر في الجانب التجاري دون غيره من الجوانب الأخرى، وإنما كان، وفضلا عن ذلك،  تواجدا علميا وتعليميا وتربويا وتعارفيا وتثاقفيا وتعاونيا ومن أجل مؤازرة الثورة يوم أن دقت ساعتها، أيضا.

4 ـ لم تكن مساهمة الإخوة الإباضيين في مدينة "باتنة" وضواحيها بارزة في مجال الحركة الإصلاحية

التي تحركت عجلة نشاطها في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي لانشغال رجال الإصلاح الإباضيين الذين توكل إليهم هذه المَهِمَّة بالدرجة الأولى بالعمل الإصلاحي في الجنوب الجزائري، ولوجود من أعفاهم من هذا الواجب من أبناء المدينة وضواحيها، وممن جاؤوها من مناطق أخرى كبلاد القبائل الكبرى، وغيرها. وقد يكون بعد المسافة عاملا آخرا مانعا للسير في هذا الاتجاه سيرا مؤثرا يخلف بصمة ويترك أثرا بائنين للعيان.

 

الهوامش والإحالات

 (17). كان ذلك في جلسة حول وليمة عشاء أقامتها إحدى العائلات القرارية في صيف سنة 2006م، وكنت من بين المدعوين إليها.

(*****) ـ الصواب هو الطريق المؤدية إلى "مروانة" مرورا عبر قرية "وادي الماء".

(******) ـ هي ثورة "الأوراس" التي وقعت في سنة 1916م.

(18) ـ لمباركية نوّار ـ الشيخ محمد عبد القادر العوبي ـ حياته ودوره في الحركة الإصلاحية في مدينة باتنة ـ مطبعة عمّار قرفي وشركائه ـ باتنة ـ الصفحة: 47.

(19) ـ الخرفي صالح "دكتور" ـ من أعماق الصحراء ـ دار "الغرب الإسلامي" ـ بيروت ـ لبنان ـ نوفمبر 1991م ـ الصفحة: 28.

(20) ـ نفس المرجع السابق ـ الصفحة: 70.

(21) ـ بيوض إبراهيم بن عمر ـ أعمالي في الثورة ـ الزيتونة للإعلام والنشر ـ نشر جمعية "التراث" ـ القرارة ـ غرداية ـ الصفحة: 21:

(22) ـ نفس المرجع السابق ـ الصفحة: 22.

(23) ـ ناصر بوحجام محمد بن قاسم ـ الشيخ بيوض والعمل السياسي ـ المطبعة العربية ـ غرداية ـ 1991م ـ الصفحة: 66.

 

تعليقات

حموالثلاثاء 02 سبتمبر 2014 - 13:01

موضوع تاريخي شيق شكرا لك أستاذنا

إضافة تعليق