أنت الآن هنا: الصفحة الرئيسة - أحداث ومحطات - فتنة غرداية ديسمبر 2013 - كلمة جنازة الشهيد عوف اليسع بن محمد

أحداث ومحطات

الأربعاء 2 جويلية 2014

كلمة جنازة الشهيد عوف اليسع بن محمد

د. مصطفى بن صالح باجو

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله المتفرد بالعزة والجلال، له الخلق والأمر وإليه المآل، له وحده الملك والملكوت، وهو حي دائم لا يموت،  (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ اِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) القصص: ٨٨.

جعل يوم الفصل ميقاتًا للحكم بين العباد، وتحقيق الجزاء بالعدل إنه لا يخلف الميعاد (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا اِنـَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ اَلِيمُم بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) يونس: ٤

 آمنّا به إلها عليما حكيما، وربًّا قاهرا عظيما، نحمده على السراء والضراء، ونشكره في النعماء وعند اشتداد البلاء، وذلك شأن المؤمن لأمر الله يسلّم، كما وصفه المصطفى صلى الله عليه وسلم، "وليس ذلك إلا للمسلم، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له".

ونصلي ونسلم على سيد الشاكرين وإمام الصابرين، محمد بن عبد الله خير خلق الله في الأولين والآخرين، أوذي في الله بكل ألوان البلاء، وناله الأذى في بدنه وعرضه، وفي أهله وولده، فما زاده ذلك إلا رسوخ قدم في أرض الإيمان، وعزةً وشموخ نفس على أهل الكفر والطغيان.

أحبة الإيمان، سلام عليكم تتنزل به ملائكة الرحمان، وتغمركم بنفحاته في شهر المبرة والغفران، وتحية ودٍّ وتقدير وإجلال لثقتكم بحكمة الرحيم الرحمن، وما أكرمكم به في هذه الأيام الشداد، من نفوس مطمئنة تؤمن بما قضى الله على العباد، وتذعن لحكمته في الابتلاء وصروف الأيام، وتحتمل ألوان المكر وهي قادرة على الانتقام، وتأوي إلى كهف الصبر يقينا بعدل رب الأنام، وإيمانا بخبره الصادق في محكم التنزيل: (وَلاَ تَحْسِبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُوَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الاَبْصَارُ) إبراهيم: ٤٢

ورجاؤها أن ينصفها من المجرمين، يوم يبعث الناس لرب العالمين: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الاَرْضُ غَيْرَ الاَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ(48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الاَصْفَادِ(49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىا وُجُوهَهُمُ النَّارُ(50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتِ اِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) إبراهيم: ٤٨ - ٥١

 

 أحبة الإيمان، يجمعنا هذا الموعد المسطور في كتاب القدر، وما كان يخطر ببال أحد منا ولم ينتظره منتظر، وشاء الله أن يضمنا هذا الجمع الحاشد في يوم مشهود لنشيّع إلى جنة الخلد بإذن الله عبدين من عباد الله الصالحين، امرأة من آل فخار وافاها أجلها بعد حياة امتدت خمسًا وستين سنة، كانت حافلة بطاعة الله وابتغاء ما عنده من فضل ودرجات، وخلفت سبعة من البنين والبنات، وشاب اغتالته يد الغدر فجر أول يوم من رمضان، إنه الفتى الشهيد عوف اليسع بن محمد

من مواليد هذه المدينة المجاهدة رأى نور الحياة يوم 21 أوت 1995.

يتجلى فيه وصف المصطفى عليه السلام:  شاب نشأ في عبادة الله،

أجل، لقد شاءت إرادة الله أن يبقى وحيد أبويه من الذكور، وقد فُجع أهله قبل ست سنوات يوم اختطف الطوفان الأب في فيضان عظيم، وخط قلم القدرة أن يختطف الطغيان الابن في جرم فظيع أليم.

لقد كان شهيدنا برًّا بأمه بكل معاني البر والإحسان، مطيعا لها في كل حين وآن، ظل بعد فقدان الوالد عمدة البيت في كسب المعاش وقضاء مصالح أمه وأختيه، وأصرّ مع ذلك على مواصلة مشوار الدراسة، وانتهاز فرص سوانح لكسب لقمة العيش الكريم. وكان يقدم كل ما كسبت يداه لأمه طاعة لمن أنشأه وربّاه.

كان شهيدنا قد أنهى إجراءات الاستعداد للسفر إلى التل للعمل في فترة الصيف، ولكن القدر كان له بالمرصاد، في اليوم الموعود.                                                                                                                                                                                      

لقد صلى الفجر في المسجد في أول صبح من أيام رمضان، وتلا ما تيسر من القرآن في البيت، وكان يتلوه جهرا على غير عادته. ثم امتطى الدراجة ليخرج من الدار، فسألته أمه: إلى أين يا عزيزي؟ فقال: لملء بنزين الدراجة. فقالت: ولِم تملؤها وأنت مسافر ولا حاجة لك بها؟

فقال: إنها دراجة زميلي استعرتها منه، ولا بد من ملئها قبل إرجاعها.

أجل، لقد قصد محطة البنزين فجرا حين تغمض أعين المتربصين والماكرين ويدركها الرقود، ولكنَّهَا صبَّحَتْهُ غدْرًا، يدفعها قلب آثم مجرم حقود، فكان فتانا الشهيد صيدا ثمينا اغتالوه في غفلة عن الناظرين.

لقد باغتوه بهجوم وحشي سافر، وضرجوه في دمائه الزكية، واستبطأت أمه قدومه بعد طول انتظار، فشرعت في الاتصال بهاتفه، ولكن لا مجيب.

وبعد تكرار الاتصال حمل السماعة ممرض المستشفى، وفجعها بأن ابنها أصيب في حادث وهو بالمستشفى، وهرعت إليه فأدركته فاقد الوعي، في غيبوبة عميقة.

ثم لفظ أنفاسه مودعا أمه الثكلى، واللوعة ملء الفؤاد، تشكو إلى الله ظلم العباد.

لقد صعدت روحه إلى السماء؛ وهي تشكو إلى رب الرحمة وحشية بشر قلوبهم من حجر أو حديد، بل هم أشد وحشية من الأسود،  ونسي الجبناء الغدارون أن عين الله لا تخطئ ولا تنام، وأن يوم الجزاء قادم مهما تطاولت الأيام وامتدت الأعوام.

لقد باؤوا بالجرم والخزي والعار، وحجزوا لهم مقعدا في جهنم وبئس القرار.

(وَمَنْ يَّقْتُلْ مُومِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) النساء: ٩٣   

شهيدُنا أحبةَ الإيمان طالب بمعهد الإصلاح، وهو ثاني فتًى من طلبة المعهد يذهب ضحية الحوادث هذا العام. لم تكتحل بعدُ عينه بنجاحه في شهادة التعليم المتوسط، ولم يبلغه خبرها السعيد،  حتى اختضرته يد الإجرام، في فجر أول يوم من رمضان، شهرٌ أراده الرحيم الرحمان، شهرَ الصبر والرحمة والغفران،  وأراده عَبَدَةُ الشيطان شهر الغدر والمكر والعدوان.

ولكن هؤلاء المجرمين منحوه - مأزورين غير مأجورين-، شهادة الفوز بجنات النعيم، بإذن الله، فهنيئا لك عزيزَنَا اليسعَ هذه الشهادةَ، ورفعَ الله ذِكرَك ضمن فتية الإسلام الأبرار (وَاذْكُرِ اِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الاَخْيَارِ) ص: ٤٨، وجعلك الله في جوار أبيك السابق إلى دار البقاء، الذي نحسبه بإذن الله مع الشهداء، ورفع بشهادتكما مقامَ أمّك ضمن الصابرين على توالي البلاء.

أجل لقد بلغ سيل الظلم الزبى، وتجاوز الظالمون المدى، وزلزلت هذه النكبات ثقتنا بغير الله الولي الحميد، ويئس صبرنا من الصبر منذ أمد بعيد، وسئمنا من تكرار الوعود، أن يُضرب على أيدي الجناة بيد من حديد، ويعود الأمن إلى هذه الربوع، وترفع راية العدل والأمن المنشود.

إنه أمر عجب عجاب، أن يفرض الجناة منطقهم سافرا دون حجاب، ويتحدّوا كل القيم والشرائع والقوانين،  وكلما لمحت بارقة أمل في الأفق امتدت إليها يد الإجرام تطفئها، وتشعل نار الفتنة من جديد، تستدرجنا وتنفخ في الرماد، تريد أن يكون شبابنا وقود فتنة عمياء لا تبقي ولا تذر، وتدفعه دفعا ليفقد رشده ويكفر بمبادئه ليستحل القتل وسفك الدماء، حتى تختلط الأوراق، ويحلو للعابثين أن يواصلوا تدمير هذه الحصون، وتشويه صفاء صفحتنا، ويهدموا تليد أمجادنا، ويفرحوا حين نقع في الحبائل المنصوبة، لنغدو لقمة سائغة للآكلين، وهدفا ميسورا للاعبين.

ولكن هيهات، هيهات، ما دام في أمتنا هذا الجيل المؤمن الواعي بحقيقة هذه المكائد، البصير بخطط المجرمين وما يرمون إليه من المقاصد. فأنتم بإذن الله صِمَام الأمان، وحصن الأوطان، ومطافئ تمنع النار أن تلتهب فتأتي على الأخضر واليابس، وتهدم البناء على الجميع. فاستمسكوا شبابنا الصامد الصابر، بقيم ديننا وثوابت أمتنا وكونوا حكماء مهما اشتد استفزاز السفهاء، واثبتوا على الدين والزموا أحكامه تُحرِزُوا نصر الله على كل الأعداء.

أحبة الإيمان، إن مسلسل الغدر وانتهاك حرمات أنفس مؤمنة بريئة، قد بلغ منتهى ما يتصوره إنسان، وهذه ضحية ثامنة  في غضون بضعة أشهر تضاف إلى ضمن قائمة الشهداء، والمجرمون يمرحون ويسرحون في الأرض طلقاء، ونتساءل في حيرة وبفارغ صبر: أين عدل القضاء؟

إن مُسَكِّنَاتِ الوعود قد يستمرّ مفعولها إلى حين، ولكنّ جماهير الضحايا المظلومين تريد تجسيدًا للوعود، وهي على جمر الصبر تنتظر فعلا تراه الأعين في الميدان، وضربة حاسمة وعقوبة صارمة للمجرمين تعيد الطمأنينة للنفوس، وتضمد الجراح وتأسو القلوب المكلومة، وتفرج  عن الأنفس غصصها المكظومة.

وإلى أن يَفِيَ المسؤولون بما وعَدُوا، فإنه لا عزاء لنا في نفق الانتظار والاصطبار، إلا الإيمان بعدل الملك الديان، واليقين بقصاصه من الظالمين وإن طال الزمان.

فعلى هؤلاء المجرمين لعنات الله والملائكة والناس أجمعين، وإنا لهذه الجرائم الفظيعة منكرون، وننهى عنها مُشَنِّعِين، فردِّدُوا معي -رحمكم الله- كما جرت عادة أوائلنا الصالحين، إذا أسفر أهل المنكر عن وجوههم وقحين:

ننهى أهل المنكر،

ننهى أهل المنكر،

ننهى أهل المنكر.

حسبنا الله ونعم الوكيل،

حسبنا الله ونعم الوكيل.

 

أحبة الإيمان في هذا الموكب الحاشد، ها قد طويت صحفة هؤلاء الأموات، وودعونا إلى دار القرار، ويا لخسارة العمر إن لم يكن لنا منهم عبرة وادكار، فنحن المعنيون بالأمر قبل أي أحد.

واعلموا غير معلَّمين، أن نذير الموت يرصدكم في كل حين، مع كل خطوة وإثر كل نفس، فهل أنتم مستعدون، للقاء رب العالمين؟

إن نعمة رمضان فرصة سانحة للتوبة ورد المظالم، فليراجع كل واحد منا نفسه، وينظر كيف حاله مع ربه ومع العباد، ويستحضر موقفه وحيدا يوم يقوم الأشهاد، يسأله ربه عن نعمه الجليلة: عمر مديد، وصحة وشباب، ومواهب ومال، وأهل وأولاد، ومرتبة ومسؤولية، وقائمة من النعم طويلة، وكلها ملفات ثقيلة، والحساب عنها يومئذ عسير خطير، حينها تكشف الحقائق ويُفضح المستور (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً اِلآَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبـُّكَ أَحَدًا) الكهف: ٤٩.

فاذكر أخي المؤمن البصير، رمضان موسم الإنابة ومراجعة الحساب، واعتبر بموقف موت الفجاءة يرصد الشباب.

إنها فرصة رمضان، وإنها تذكرة الموت، وهذا مصيرك أيها الإنسان، فما أعددت لمستقبلك الأبدي، يوم تنقطع الصلات ويتنكر لك الأقارب والأصحاب، ويخذلك الأنصار والأحباب، ولا ينفعك ملء الأرض ذهبًا إن كان عملك غير صالح، فأعد الجواب قبل أن يغلق الباب، ولا ينفع ندم ولا استعتاب.

اللهم أرنا في الظالمين عجائب قدرتك يا عزيز يا قهار، اللهم إنهم سعوا في الأرض بالفساد، وروّعوا العباد، وانتهكوا حرمات شهرك العظيم، ودنسوا طهره بجرمهم الأثيم، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، وافضحهم في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

اللهم قد أطالوا علينا ليل البلاء والترويع، فجازهم بالخوف والتجويع، في يوم الفزع المريع، يصلون فيه  (نَارًا حَامِيَةً(4) تُسْقَىا مِنْ عَيْنٍ ـ انِيَةٍ(5) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ اِلاَّ مِن ضَرِيعٍ(6) لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ) الغاشية: ٤ - ٧

اللهم فرِّج كربتنا، وآمن روعاتنا واستر عوراتنا، وخذ بأيدينا إلى ما تحب وترضى، والطف بنا فيما جرى به القضا، وألهمنا مراشد أمورنا فلا نجهل ولا يُجهَل علينا، ووفق شبابنا ورجالنا لخير القول والعمل، وأفرغ علينا صبرا جميلا مهما اشتد الخطب وجلّ، دون استكانة ولا سكوت على من ظلَم، ولا تفريط في المبادئ والقيم، ولا تغيير لنهج أمتنا الأقوم، إنك أنت الأعز الأكرم، يا ذا الفضل والجود، يا رحيم يا ودود. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

 

د. مصطفى بن صالح باجو

غرداية فجر الثلاثاء 3 رمضان 1435هـ 1جويلية 2014م

في جنازة الشهيد عوف اليسع بن محمد.

وكانت جنازة مشهودة بمقبرة بابا السعد. غرداية

إضافة تعليق