أنت الآن هنا: الصفحة الرئيسة - وسائط إعلامية - مقالات مكتوبة - حُبُّ عقلي

مقالات مكتوبة

الإثنين 21 أكتوبر 2013

حُبُّ عقلي

د. محمد الهادي الحسني

يمازحني بعض الإخوة فيقولون: إننا نراك تحب أهل مزاب أكثر من حبك لغيرهم من الجزائريين، يدل على ذلك ترددك على واديهم أكثر من ترددك على مناطق البلاد الأخرى، ويبالغ البعض في المزاح فيقول لعلك على المذهب القائل:

و ما حب الديار شغل قلبي               ولكن حب من سكن الديار

أو على مذهب القائل:

أذني لبعض الحي عاشقة                    والأذن تعشق قبل العين أحيانا.

وأرد قائلا: ما أبرئ نفسي من حب إخواني في مزاب بل إني أعترف بأنني أحبهم حبين، حب المسلم لأخيه المسلم، وحبا لأنهم أهل لذلك. فحبي لإخواني في مزاب ليس هو ذلك الحب الذي يعمي ويصم حتى يصل إلى درجة حب ذلك الأعرابي الذي أحب امرأة سوداء، ليس فيها ما يحب فلما لامه اللائمون جادل عن نفسه يقوله:  أحبها حتى أحب لحبها سود الكلاب، وليس هو كحب الأعرابي الآخر الذي انتقلت عدوى حبه حبيبته إلى بعيره الذي أحب ناقة حبيبته فقال:

وأحبها وتحبني                      ويحب ناقتها بعيري

ولكنه حب يحكمه العقل الرصين، ويهيمن عليه التأمل الدقيق، فإذا أحببتهم أكثر من غيرهم فلأنني أجد فيهم كثيرا مما لا أجده في مناطق كثيرة من وطني، أجد فيهم الأدب الرفيع، والخلق السامي، والأصالة الجزائرية لباسا وأناة و عبارة.

أجد فيهم -وهم الأمازيغ الأقحاح- غيرة على العروبة لا أجدها في موطن العرب الأصلي، وأسمعهم يتحدثون بلغة يعرب فإذا هم في فصاحة اللسان أفصح من قحطان وقد زادهم حبهم لها عزا إلى عزهم، حتى قال قائل منهم، هو المرحوم صالح خرفي:

ولكن حرف الضاد في لهواتنا                       يأبى لغير العز أن يتضرعا

أجد فيهم المساواة الإسلامية في أجلى صورها، بحيث لا يميز المرء بين أكبر الأساتذة الاختصاصيين في شتى مجالات العلم وبين أبسط رجل منهم.

أرتاد مساجدهم فأجدها نظيفة، نقية، خالية من الزخارف التي تلتهم الأموال وتشغل البال، وأجدها عامرة بالشباب قبل الشياب، يعمها الهدوء فلا صخب ولا مكاء وتصدية، وإذا تكلم الإمام أو أي محاضر رأيت الآذان مرهفة، والأصوات خاشعة، والأعناق مشرئبة والقلوب واعية، والعقول يقظى.

أتجول في شوارع مدنهم فلا أسمع كلاما بذيئا يخدش الحياء، ولا أغاني تافهة تجرح الكرامة، وأمد عيني يمنة ويسرة فلا أرى كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت، ولا أرى خمورا ولا فجورا ولا مخنثا، ولا مسترجلة، قد علم كل طبيعته ودوره.

أحضر مجالسهم فإذا علماؤهم في صدرها، وأسمع المناقشات العلمية المفيدة، والحوارات الفكرية الثرية، والمذاكرات الأدبية، والطرائف المليحة، يذوقون النكتة ويصنعونها، تهزهم الكلمة الجميلة شعرا أو نثرا.

إن التكافل بينهم حقيقة وليس شعارا، إذ لم أجد على كثرة ترددي عليهم متسولا، فمحاوجهم يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، ولهم على المجتمع حق معلوم يأتيهم إلى بيوتهم. تحضر أعراسهم وأفراحهم فلا تشاهد عريا ولا اختلاطا، ولا رقصا، ولا غناء وإنما هي أناشيد تشدو بها بلابل، تتغنى بالوطن المفدى، وتحض على الأخلاق السامية، وتمجد العفاف، وتحبب إلى النفوس الجمال وتسبح من خلق الجمال.

أعلم أن هؤلاء القوم ليسوا ملائكة، فهم بشر مثلنا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ويقترفون الآثام، ولكنهم لا يجاهرون بها، فإذا استحوذ الشيطان على أحدهم وجد في وجهه نظاما اجتماعيا مستمدا من الإسلام، فقوطع حتى يعترف بذنبه، و يتعهد ألا يعود لمثله. وددت لو أن قومي من تلمسان إلى تبسة، ومن برج الكيفان إلى برج باجي مختار على هذه الصورة الجميلة التي كانوا هم أيضا عليها. ولكن فرنسا الفاسدة أفسدتهم وأنجى الله الوادي المبارك من فسادها ليكون شاهدا على ما كنا جميعا عليه، وليكون دليلنا في عودتنا إلى ما كنا عليه، وتحية طيبة مباركة إلى إخواني في مزاب الذين بادلوني حبا بحب.

المصدر جريدة البصائر

إضافة تعليق