أنت الآن هنا: الصفحة الرئيسة - نافذة على مزاب - التراث الإباضي - الوحدة الإسلامية من خلال سيرة العلامة سالم بن ذكوان الهلالي

نافذة على مزاب

الأربعاء 15 جانفي 2014

الوحدة الإسلامية من خلال سيرة العلامة سالم بن ذكوان الهلالي

أحمد بن حمد الخليلي (المفتي العام لسلطنة عمان)

الوحدة الإسلامية  من خلال سيرة العلامة سالم بن ذكوان الهلالي

أحمد بن حمد الخليلي
المفتي العام لسلطنة عمان


مقدم إلى المجلس الإسلامي الأعلى  بالجمهورية الجزائرية

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد؛؛؛
فإن مما يجب أن يسعى إليه كل غيور على هذا الدين الوحدة الإسلامية، فقد مضى على أمتنا حقب من الزمن، وهي لا ترى إلا التمزيق لصفها والاختلاف في كلمتها، حتى أصبحت لذهاب ريحها وضعف أمرها منقادة لعدوها وهو يجرها إلى حتفها، فكل يوم نرى تنفيذ مؤامرة على بلد من بلدان الإسلام، يطمر فيها ذلك البلد تحت ركام التدمير والخسف والإبادة، فيذهب مع ذهابه مئات الآلاف من المسلمين وفي مقدمتهم النساء والأطفال الأبرياء، وما نخرج من مؤامرة ضدنا حتى نساق إلى أختها تكون أنكى منها وأمر، وكأنه كتب علينا أن نبقى على هذه الحال أبد الدهر.
... نعم؛ يجب أن يكون الشغل الشاغل الآن للمسلمين هو تصفية الأجواء الإسلامية، وتوحيد المواقف، والسعي الحثيث نحو الأمة الإسلامية الواحدة، حتى نتجاوز هذه الحقبة المؤسفة التي تمر علينا من الزمن.

... ولا ريب؛ أن من الأعمال الجليلة الساعية للوحدة الإسلامية ما يقوم به "المجلس الإسلامي الأعلى" بالجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، الذي اختط لنفسه منهجاً سامياً للتأليف بين المسلمين والتقريب بين مذاهبهم، ورفع اللبس الواقع بينهم، من خلال الملتقى الدولي الذي ينظمه.

 


... وقد تلقيت دعوة كريمة من أخي فضيلة الدكتور أبو عمرو الشيخ رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، طالباً مني فيها المشاركة ببحث عن "التفاهم بين المذاهب الإسلامية" وليس للمسلم إذا ما دعي لمثل هذا الخير إلا أن يجيب، فكانت مشاركتي بهذا الموضوع المختصر الذي جاء بعنوان "الوحدة الإسلامية من خلال سيرة العلامة سالم بن ذكوان الهلالي" لتميط اللثام عن الخلفية التأريخية لعلماء الأمة في قابليتهم للوحدة الإسلامية، فإن كان في تأريخ الأمة من النقاط السوداء مما يجعلنا نعتبر به ونتعظ، فإن فيه ومضات مضيئة كثيرة، يمكن أن تكون قاعدة مهمة للوحدة الإسلامية، وقد رأينا أن مما يعوق الوحدة الإسلامية ركون الناس إلى كلام بعض العلماء الذي يدعو إلى القطيعة، وقد خرج في ظروف لم يعد لها أي وجود، ولذلك كان لزاماً –في مقابل ذلك- أن يبرز من أقوال العلماء وسيرهم ورسائلهم ما يختزن الدعوة إلى التواد والتصافي بين المسلمين، ولذاك رأيت أن أقدم من التأريخ الإباضي في هذا مثالاً يمكن أن نستغله لإزالة الحاجز النفسي بين المسلمين في النظر إلى بعضهم البعض.
والله الموفق لما يحبه ويرضاه.

تمهيد

 


من القضايا المطروحة في عالمنا، سواء على الساحة الفكرية أو الثقافية أو السياسية، "ما موقفنا من الآخر" الذي يختلف عنا –ونختلف عنه- في المعتقد والتوجه والثقافة، هل نتجه معه نحو إذابة الفوارق كلية؟ وهل هذا ممكن أصلاً؟ أو الانحياز والقطيعة وعدم قبول الآخر؟ أو الشدة والغلظة؟ أو الحوار والجدال؟ ثم كيف نؤطر كل ذلك في إطار الوحدة الإسلامية بين المسلمين أنفسهم، وإذا كان عالم اليوم يتجه نحو التكتل حسب الرقعة الجغرافية، أو المصالح المتبادلة، أليس من الواجب علينا نحن الشعوب الإسلامية أن نتكتل ونتوحد في أمة واحدة، يجمعها الإيمان بالله، ويكون منهجها دينه القويم، وقائد لوائها خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم؟ إذا كان المطلوب منا أن نحدد مواقفنا من الآخرين، فلا ريب أن من الأهمية القصوى أن نزيل الحاجز النفسي الذي يفصل بين المسلمين بعضهم البعض، نتيجة تراكمات صنعها التشرذم والتقوقع والانغلاق على الذات بين طوائف المسلمين، والاعتداد بالرأي والتعصب له، مع ترك المساحة الشاسعة للالتقاء بينهم.

كل هذه الأسئلة الملحة لا بد من الإجابة عليها، لأنه بذلك تتحدد المواقف بين الناس، ويعرف الإنسان المسلم موقعه الذي يتحرك فيه، فمن الضرورة بمكان إبراز التوجه الإسلامي الصحيح لهذه القضايا، وصياغة منهج موحد للوحدة الإسلامية يكون دستوراً ملزماً للأمة، ولا يتم ذلك إلا حسب منهج صحيح تتم بلورته من قبل علماء الأمة المجتهدين الغيورين عليها والساعين إلى وحدتها ورفعتها وسؤددها، ثم يجب أن ينزّل هذا التوجه على أرض الواقع، ويتم الإشراف على تنفيذه من قبل لجنة واعية وعاملة، حتى لا يبقى مجرد حبر على ورق.

 


نعم؛ لا أحد ينكر أن موقف الإسلام من هذه القضايا راق وعظيم، لم تصل إليه الدساتير البشرية، لكنه يحتاج منا إلى تجلية وإظهار بعد أن غمره الكثير من التصرفات الخاطئة على مر الأيام، ولا عيب أبداً أن ننقد أنفسنا، وأن نتجاوز نقاط الضعف لدينا وأن نطور نقاط القوة ونحسن الجودة، إننا ندعو للاستفادة من نتاج العلماء ومما أفرزته المدارس الإسلامية قاطبة، وإن وجد شيء مما لا يتناسب مع التصور الإسلامي الصحيح وحركة الواقع فلا ينبغي التشبث به لأجل أنه موروث مذهبي، فلو استطعنا أن نتحرك بالمذاهب الإسلامية لتشكل حساً إسلامياً واحداً لكان هو قمة المطلوب، وغاية المرغوب.

إننا -نحن المسلمين- علينا أن لا نستنكف من أخذ الحق بعد تمحيصه بالدلائل الشرعية، ولذلك يتوجب علينا أن نطرح مختلف رؤانا الإسلامية، لأجل الوصول إلى تصور شعوري موحد وتطبيق عملي واحد.

وعلى ذلك؛ وبناء على الأطر المحدد بحثها في هذا المؤتمر، فإنه يسرنا أن نضع بين يدي العلماء الأجلاء والمفكرين الفضلاء رأي المذهب الإباضي، وقد اخترنا العلامة سالم بن ذكوان الهلالي نموذجاً للرؤية الإباضية، لأسباب سأذكرها لاحقاً بإذن الله تعالى.

الوحدة الإسلامية منهج قرآني
المذهب الإباضي له عمقه التأريخي في تحديد موقعه من كل هذا القضايا، فنجد من الصدر الأول لتأسس هذا المذهب، الرؤية واضحة والمنهج بيّناً والخطوات صحيحة، وكل ذلك مقيس وفق نظرة الشرع الشريف، ولم يظل مجرد شعارات لامعة لا حظ لها من التطبيق، بل طبقها علماء المذهب وأئمته على طول مسيرة التأريخ الإسلامي.

(1/4)


ونحن عندما نقول ذلك، لا يفوتنا أن نذكر بأن في كل المذاهب دعوات إلى الوحدة الإسلامية وتوحيد الصف وتقوية الوشائج الأخوية، مما يؤكد على سلامة المنحى وصدق التوجه، فما علينا إلا أن نوحد الجهود ونجعلها كلمة واحدة تبني الأمة وتعمرها وفق شريعة الله تعالى، لنرجع أمة قيادة وريادة، أمة وسطاً كما أرادها الله تعالى، قال الله تبارك وتعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)) البقرة 143

ووحدة الصف المسلم مطلب شرعي يشكل ركناً من أركان الدين، ويأتي في ذروة سنام أمره، ولذلك لا تجد الخطاب الإسلامي في القرآن الكريم موجهاً إلى الفرد وحده، بل موجهاً إلى الجماعة المؤمنة، لذلك نجد الخطاب في كتاب الله تعالى بـ "يا أيها الذين آمنوا" و"يا أيها الناس" ... وهكذا.

والعبادات في الإسلام تؤدى بشكل جماعي، فالصلاة تؤدى في جماعة، بل المؤمن وهو يقف بين يدي ربه ولو كان منفرداً في صلاته، فإنه يشعر وهو يقرأ بأم الكتاب أنه في لحمة المجتمع وأنه جزء من نسيجه، وفي الصوم يقول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) البقرة 183 فيبدأ المؤمنون صيامهم في رمضان في لحظة واحدة وينتهون في لحظة واحدة، لا فرق بين الناس مهما تفاوتت مراتبهم الاجتماعية، وموسم الحج يضم أكبر عدد من أبناء من أبناء الأمة يأتون من مختلف بقاع العالم قال الله تبارك وتعالى: ((وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)) الحج 27، والالتقاء الجماعي للمسلمين في هذه العبادات له فوائد عظيمة، إلا أن أعلاها هو الأخوة والوحدة الشعورية واللقاء.

 


وعندما نتدبر سورة العصر؛ نجد أن الله تبارك وتعالى عندما أشترط في نجاة الإنسان من الخسران الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، جعل كل ذلك في الإطار الجماعي، ليؤكد أن المجتمع السوي لا يمكن أن يكون له وجود حقيقي إلا في ظل الجماعة الواحدة، يقول الله سبحانه وتعالى: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ))

ولم يقصر الله عز وجل الوحدة على تبادل المصالح والمنافع –رغم أهميتها- بل جعلها وحدة إيمانية تسمو فوق كل ذلك، مبتغاها الإيمان بالله تعالى ووجهتها رضوانه ومنهجها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قال الله تعالى: ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) التوبة 71

 


ونجد في كتاب الله تعالى التوجيهات العظيمة بالاعتصام بحبل الله تعالى وعدم التفرق، فإن في الفرقة هدماً للأمة، وذهاباً لريحها، ولننظر إلى هذا النداء الإلهي: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) آل عمران
102-105

 


ويأمر الله تبارك وتعالى الأمة الإسلامية أن تسعى لإزالة أي شقاق بينها بالإصلاح بين الطوائف المختلفة بتسديد الرأي والتوجيه الحسن وإزالة دواعي الاختلاف، قال الله تعالى: ((وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ ولا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) الحجرات 9-11

ونرى بوضوح في كتاب الله تعالى بث عوامل الألفة سواء بالإرشاد إلى خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الخلق العظيم: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) القلم 4 أو باتباع منهجه في تأليف القلوب وتألف الناس؛ قال سبحانه: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)) آل عمران 159

 


وتغيير الواقع نحو الهدي الإلهي لا يكون بالإكراه والشدة والغلظة بل بالدعوة إلى الله تعالى بالأسلوب الحسن والكلمة المحببة؛ قال تعالى: ((ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)) النحل 125 ولا ريب أن لنا في رسول الله أسوة حسنة فعلينا الاقتداء به واتباع هديه، قال عز من قائل: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)).
الأحزاب21

وقد ظهر هذا المنهج واضحاً في دعوته صلى الله عليه وسلم فاستطاع أن يؤلف بين المهاجرين والأنصار وبين الأوس والخزرج، وأن تنضم إليهم بعد ذلك قبائل العرب لتكون الأمة الإسلامية، وهكذا انتشر دين الله تعالى بين العالمين.

هذا هو المنهج الإلهي الواضح السمح الذي رسمه لنا الله تعالى في كتابه العزيز وسار عليه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.

الوحدة في التأريخ الإباضي
لا ريب؛ أن المدارس الإسلامية استقت آراءها وأفكارها من المعين الأول للإسلام وهو الكتاب العزيز والسنة النبوية، وما من مذهب إلا وقد صدر منهما ونهل، وسوف نستعرض هنا التوجه الإباضي العام ليتبين أن هذا المذهب يسير في نفس الخط الذي رضيه الله لنا ووجهنا إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأنه يمد يده لإخوانه المسلمين في بقية المذاهب للقضاء على أي بؤرة خلاف قد تمزق الصف الإسلامي.

 


فالإمام جابر بن زيد الذي وطد دعائم المذهب الإباضي، كان إماماً مرتضى من جميع الأمة الإسلامية، ولذلك هو مرجع للجميع، فوجدت آراؤه وأقواله في أغلب المذاهب الإسلامية، وهذا يدل على أن الإمام جابر رضي الله عنه لم يكن قصده الانحياز نحو توجه واحد، بل كان مصلحاً يسع الجميع بفكره وتطلعاته نحو التصحيح الإسلامي الذي ينشده في ذلك الوقت، بعد أن أصيبت الأمة بدخن الخلاف والتشرذم.

ومن هذا المنطلق صدر ذلك الإعلان المنصف -الذي رسم مبدأ الإباضية في نظرتهم إلى الأمة- من أشهر قائد إباضي وهو أبو حمزة المختار ابن عوف السليمي، في خطبته التي ألقاها على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصاخ لها الدهر، وسجلها الزمن، وخلدها التأريخ، إذ قال فيها -رحمه الله-: "الناس منا ونحن منهم إلا ثلاثة: مشركاً عابد وثن، أو كافراً من أهل كتاب، أو إماماً جائراً" [1].

ثم نجد بعد ذلك الإمام نور الدين السالمي [2] رحمه الله تعالى من المشرق الإسلامي يتجاوب مع داعية الوحدة الشيخ سليمان الباروني [3]، الذي عمل وسعه لأجل أن يوحد الصف الإسلامي؛يقول الإمام السالمي:-

"قد نظرنا في الجامعة الإسلامية فإذا فيها كشف الغطاء عن حقيقة الواقع، فلله ذلك الفكر المبدي لتلك الحقائق.
...
نعم نوافق أن منشأ التشتيت اختلاف المذاهب وتشعب الآراء، وهو السبب الأعظم في افتراق الأمة، على حسب ما اقتضاه نظركم الواسع في بيان الجامعة الإسلامية.

... وللتفرق أسباب أخرى؛ منها التحاسد أو التباغض والتكالب على الحظوظ العاجلة، وفيها طلب الرياسة والاستبداد بالأمر.

... وجمع الأمة على الفطرة الإسلامية بعد تشعب الخلاف ممكن عقلاً مستحيل عادة، وإذا أراد الله أمراً كان ((لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)). الأنفال 63

 


... والساعي في الجمع مصلح لا محالة، وأقرب الطرق له أن يدعو الناس إلى ترك الألقاب المذهبية، ويحضهم على التسمي بالإسلام، فإن الدين عند الله الإسلام.

... فإذا أجاب الناس إلى هذه الخصلة العظيمة ذهبت عنهم العصبية المذهبية ولو بعد حين، فيبقى المرء يلتمس الحق بنفسه، ويكون الحق أولاً عند آحاد الرجال، ثم يفشوا شيئاً فشيئاً حتى يرجع إلى الفطرة، وهي دعاية الإسلام التي بُعث بها محمد عليه الصلاة والسلام، وتضمحل البدع شيئاً فشيئاً، فيصير الناس إخواناً، ومن ضل فإنما يضل على نفسه.

... ولو أجاب الملوك والأمراء إلى ذلك لأسرع في الناس قبولهم وكفيتم مؤنة المغرم، وإن تعذر هذا من الملوك فالأمر عسر والغرم ثقيل.

وأوفق البلاد لهذه الدعوة مهبط الوحي ومتردد الملائكة ومقصد الخاص والعام حرم الله الآمن، لأنه مرجع الكل.

... وليس لنا مذهب إلا الإسلام، فمن ثم تجدنا نقبل الحق ممن جاء به وإن كان بغيضاً، ونرد الباطل على من جاء به وإن كان حبيباً، ونعرف الرجال بالحق، فالكبير عندنا من وافقه والصغير من خالفه، ولم يشرع لنا ابن إباض مذهباً، وإنما نسبنا إليه لضرورة التمييز حين ذهب كل فريق إلى طريق، أما الدين عندنا لم يتغير، والحمد لله" [4].

نقتصر على هذا –مراعاة للاختصار الذي اتبعناه في هذا البحث- وإلا فإن هناك الكثير من النماذج التي تكشف عن الرغبة الملحة لدى علماء المذهب الإباضي للوحدة الإسلامية.

السعة في الرأي

 


دين الله واضح المعالم، وضئ المسالك، بيّن الأحكام، جاء ليناسب الجوانب الثابتة من النفس الإنسانية، كما أنه لا يعوق حركة الإنسان في الحياة، فمن خاصية هذا الدين خلوده وصلاحيته لكل زمان ومكان، ولذلك كان من مشيئة الله تعالى أن يكون في دينه الخاتم آيات محكمات هن أم الكتاب، تكشف عن الحقائق الثابتة، سواء تعلقت بمقام الألوهية العظيم، أو بالعقائد الغيبية، أو بما يتواءم مع رغبات نفس الإنسان في العبودية لله تعالى، أو بما يتلازم مع حاجة الأمة إلى الثوابت في كثير من القضايا، إلا أن من طبيعة الحياة الحركة والانتقال من طور إلى طور، والتبدل من وضع إلى وضع، فجعل الله تعالى كثيراً من آيات كتابه قابلة للتأويل حتى تتناسب مع احتياج البشر إلى الاستمداد من كتاب الله تعالى لتسيير حياتهم والنظر في أمر معاشهم، وحتى يكون الإعمار الكوني المطلوب من الإنسان إعماراً صحيحاً لا انتكاسة فيه، لكن بشرط أن لا ينسينا المتشابه الواقع في كتاب الله تعالى المحكم من الآيات، وأن لا نركن إلى هذا التشابه لنثير به الفتنة، ولعلم الله تعالى السابق بحال الإنسان، فقد حذر جل وعلا من ذلك بقوله الله تعالى: ((هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ)) آل عمران 7

 


ولذلك جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم القطعي المنبني على دلائل المحكم، وهو الركن الركين من الشريعة الذي لا يجوز الاختلاف فيه قطعاً، ومن يخالف فيه فهو خارج من دائرة الإسلام، فالإيمان بالله تعالى رباً وبمحمد بن عبدالله رسولاً خاتماً، وبمشاهد يوم القيامة والجنة والنار، ووجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج؛ ونحوها من القطعيات، هو جامع كلي للإيمان لا يتم إسلام أحد إلا بالإيمان به، ولا يعدّ في المسلمين من خالفه.

وجاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام أيضاً الظني المنبني على دلائل الظاهر والمتشابه، وهذا أمر اقتضته حكمة الله البالغة، حتى يتسع دينه العظيم للفوارق العقلية والفكرية والعملية لعباده جل وعلا، وبمقدار اجتهادهم وإخلاصهم النية للوصول إلى المطلوب منهم يكون جزاؤهم الأوفى عند ربهم عز وجل، ولأن من حكمة الله تعالى تقلب الأحوال في خلقه؛ من مكان إلى آخر ومن زمان إلى آخر، جعل في المتشابه اكتنازاً للحلول الشرعية التي تفي بحاجة البشرية وعلاجاً لأدوائها المختلفة.

يقول العلامة أبو محمد ابن بركة البهلوي [5]: "ولو كان القرآن كله محكماً لا يحتمل التأويل ولا يمكن الاختلاف فيه، لسقطت المحنة منه وتبلدت العقول وبطل التفاضل واستوت منازل العباد، والله يتعالى أن يفعل ما هذا سبيله، بل الواجب في حكمته ورحمته ما صنع وقدّر فيه، إذ جعل بعضه محكماً ليكون أصلاً يرجع إليه، وبعضه متشابهاً يحتاج فيه إلى الاستخراج والاستنباط ورده إلى المحكم وإعمال العقول والفكر، ليستحق بذلك الثواب الذي هو العوض" [6].

 


إننا لو تعاملنا مع قضايا المحكم والمتشابه بروح تسودها العلمية والموضوعية والأخوة الإسلامية؛ لخفت الحدة بين المذاهب ولكان التقارب والتآلف، فما من فريق من الأمة إلا وعنده دليله من شرع الله الذي يستند إليه، وقد يخطئ أحدهم في الاستدلال ولكن لا ينبغي أن تشتد القطيعة عليه، وإنما ينبغي مناقشته المناقشة العلمية التي تبتغي وجه الله تعالى ثم الوصول إلى الحق.

إن ما عصف بالأمة من أعاصير الفتن ورياح التناحر –لو رأيناه بعين العقل- لوجدناه راجعاً إلى التعصب للرأي وعدم الاستماع إلى حجج الآخرين، واعتبار من خالفنا في الرأي خصماً؛ وأن الجلوس للتحاور معه هو من الوهن في الدين والضعف في الإيمان، مع أن الله تعالى أمرنا أن ندعو أهل الكتاب للتحاور معهم للوصول إلى كلمة سواء، قال تبارك تعالى: ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) آل عمران 64

والإباضية حريصون أشد الحرص على عدم إخراج من خالفهم من دائرة الإسلام، طالما أن لديه من الدليل ما يتشبث به، حرصاً منهم على لم الشمل ووحدة الصف واجتماع الأمة وتماسك بنيانها، يقول الإمام نور الدين السالمي رحمه الله تعالى وهو يحدد لنا موقف الإباضية من سائر الأمة [7]:

ونحن لا نطالب العبادا
فمن أتى بالجملتين قلنا
إلا إذا ما نقضوا المقالا
قمنا نبين الصواب لهم
فما رأيته من التحرير
رد مسائل وحل شبه
قمنا نردها ونبدي الحقا
لو سكتوا عنا سكتنا عنهم

... ... فوق شهادتيهم اعتقادا
إخواننا وبالحقوق قمنا
واعتقدوا في دينهم ضلالا
ونحسبن ذلك من حقهم
في كتب التوحيد والتقرير
جاء بها من ضل للمنتبه
بجهدنا كي لا يضل الخلقا
ونكتفي منهم بأن يسلموا

 


... وعلى هذه القاعدة بنى الإباضية حكمهم على طوائف الأمة، فكانوا أشد احتياطاً من إخراج أحد منهم من الملة بسبب معتقده مادام مبنياً على تأول نص شرعي ، وإن لم يكن لتأويله أساس من الصحة ولا حظ من الصواب، ومن هنا اشتد إنكار الإمام الكبير محبوب بن الرحيل -رحمه الله تعالى- على هارون اليماني الذي حكم بشرك المشبهة وخروجهم من الملة، وأنشأ محبوب في ذلك رسالتين جامعتين ضمنهما حججه الداحضة لرأي هارون، وجَّه إحداهما إلى إباضية عمان، وثانيهما إلى إباضية حضرموت [8].

... وسُئِل المحقق الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي [9] رضوان الله عليه عن حكم المشبهة هل هم مشركون؟ فكان جوابه لسائله:
... "إياك ثم إياك أن تعجل بالحكم على أهل القبلة بالإشراك من قبل معرفة بأصوله، فإنه موضع الهلاك والإهلاك" [10].

... ويقول العلامة أبو يعقوب الوارجلاني الجزائري [11] رحمه الله تعالى: "وأما المذاهب؛ وهي طريقة الأمة في الشريعة من الفقهيات ومذاهبهم في التفسير وما يؤول إلى ذلك، لا تفسيق ولا تضليل" [12].

رسالة سالم بن ذكوان
لقد أشرنا سابقاً أننا سنستعرض رسالة العلامة سالم بن ذكوان الهلالي رضي الله عنه كنموذج للموقف الإباضي في الحكم على الآخرين، ويأتي اختيارنا لهذه الرسالة لأهميتها في الفكر الإباضي، فهي تكشف منذ وقت مبكر جداً عن تحديد الموقف الإباضي ممن يخالفهم في الدين أو في المذهب، ولأنها صادرة من أحد رموز الإباضية الأوائل، ولأننا يمكن أن نعدها وثيقة دعوة للوحدة الإسلامية بين مختلف مدارس الإسلام، كما أنها جاءت مدعمة بالأدلة الشرعية من الكتاب العزيز والسنة النبوية، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وتأريخ المسلمين، وحتى تتضح أهمية هذه الرسالة من الضروري أن نعرف بالعلامة صاحب السيرة.

العلامة سالم بن ذكوان


هو العلامة النحرير الشيخ سالم بن ذكوان الهلالي رضي الله عنه، أحد مشاهير المذهب الإباضي، عاش في أواخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني الهجريين، أحد تلامذة الإمام جابر بن زيد رضي الله عنه، بل هو من خاصة تلامذته، إذ كان كاتبه، فليس من الغريب أن تصدر هذه الوثيقة الجامعة بين مذاهب الأمة من مثل هذا العالم الذي تغذى بلبان العلم ممن شهد له الصحابة الكرام بالسابقة في العلم والفقه، وكان مورداً لكافة علماء الأمة الإسلامية.

وكان له دور بارز في الأحداث التأريخية الواقعة في ذلك الوقت، فهو أحد أفراد الوفد الإباضي الذي ذهب مبايعاً ومآزراً للخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وهذه في حد ذاتها خطوة مباركة في طريق الوحدة الإسلامية، تبين أن مقصد الإباضية هو إقامة الحق في الأمة بغض النظر من أي الأطراف أو من أي العناصر، جاء في "طبقات المشائخ بالمغرب" للعلامة الدرجيني: "قال أبو سفيان: وفد جعفر بن السماك والخباب بن كليب وسالم الهلالي في جماعة من إخوانهم إلى عمر بن عبد العزيز حين ولي الخلافة، قال: فدخلوا عليه فكلموه، فقال لهم: هل تنكرون من أمر الأحكام شيئاً؟ قال: لا. قال: فكلما كلموه يفزع إلى الأحكام، قال: فبايعوه".

فمن هنا تكتسب هذه السيرة أهميتها في الفكر الإباضي خصوصاً وفي الفكر الإسلامي عموماً، وباطلاعنا على أهم مفردات هذه الرسالة يتضح لنا أهميتها في جانب الوحدة الإسلامية.

وصف الرسالة

 


لا زالت الرسالة مخطوطة ضمن كتاب "السير الإباضية"، وتقع في ثلاث وعشرين صفحة من القطع الكبير، من الصفحة 83 إلى الصفحة 105 من المخطوطة، وجاء تسميتها بسيرة سالم بن ذكوان، وهي –مع بقية رسائل المخطوطة- تنتظر من يقوم بإخراجها وتحقيقها واستخراج مكنوناتها العلمية في السياسة الشرعية، وهي بحق تعد وثيقة سياسية وفكرية لتحديد الموقف من الآخرين، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، فالموقف الإباضي متبلور منذ أيامه الأولى في حسم هذه القضية، وهي أيضاً معلم من معالم الوحدة الإسلامية، والتآلف الإيماني بين مذاهب الأمة التي أخرجها الله تعالى لتكون أمة وسطاً، أمة واحدة، يسعى ضعيفها بما يسعى به قويها من الخير والهدى والصلاح.

ويمكننا أن نحدد القضايا التي تطرق إليها العلامة ابن ذكوان رحمه الله تعالى في رسالته هذه اختصاراً وفق العناوين الرئيسية التالية:-

1- خطبة الرسالة؛ وفيها الأمر بتقوى الله تعالى والتذكير بالله تعالى.
2- دعوة الأنبياء إلى توحيد الله تعالى واحدة.
3- المساواة بين الناس.
4- ضرورة الاعتصام بكتاب الله تعالى.
5- الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم.
6- الموقف من مشركي العرب.
7- الموقف من المجوس.
8- الموقف من أهل الكتاب.
9- الموقف من المنافقين.
10- الموقف من أصحاب الأحداث من أهل القبلة.
11- الموقف من أئمة المسلمين.
12- الموقف من الخوارج الغلاة.
13- الموقف من سائر الأمة.

قراءة في السيرة


وقبل أن نشرع في قراءات بعض مفردات هذه الرسالة، علينا أن نبين أنها جاءت شاملة لأكثر من هدف يبتغي العلامة الهلالي تحقيقها من كتابتها، فبالإضافة إلى أنها تمثل معلماً حضارياً للوحدة الإسلامية، وقراءة في فكر الإباضية تجاه إخوانهم من المسلمين، أيضاً تعدّ دستوراً سياسياً في تحديد المواقف من الآخرين، ونحن في هذه الفترة من الزمن التي نرى فيها البحث على أشده عن ماهية العلاقة بين المسلمين وغيرهم، كان من الجيد والضروري أن نستقرئ هذه الرسالة في هذا الجانب أيضاً، وحتى يتبين لنا كذلك الفارق بين معاملة الإباضية لإخوانهم المسلمين وبين معاملتهم لغير المسلمين.

الرسالة –كما رأينا سابقاً من خلال الاستعراض العام لمواضيعها- تشمل الكثير من العناصر المهمة، لكن نقتصر على تبويب ما يهمنا في هذا المقام، والرسالة تنتظر من يقوم بإخراجها وعرضها.

التقوى ضمان لتنفيذ الأحكام الشرعية
كان العلامة ابن ذكوان متأثراً تأثراً كبيراً بالقرآن الكريم، فالله تعالى لم يقرر الأحكام تقريراً مجرداً، وإنما ربط أحكامه الشرعية بالتقوى التي هي جماع كل خير؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن غاية الالتزام بالأحكام الشرعية هو نيل رضوان الله تعالى والفوز في العقبى، وهو ما تثيره التقوى في نفوس المؤمنين بالإسلام، وهكذا جاءت رسالته رضي الله عنه منذ مبتداها مذكرة بالله تعالى، وحاضة على لزوم التقوى، وأن يكون المسلمون حيث أمرهم الله تعالى، وقد استغرقت الدعوة إلى التقوى جزءً غير يسير من الرسالة، حيث أطنب فيها طيلة أربع صفحات، ونحن هنا نكتفي ببعض عباراته:-

 


"ونوصيكم بتقوى الله العظيم، فإنها وصية الله في الأولين والآخرين، حيث يقول: ((وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيّاً حَمِيداً)) النساء 131 ونحضكم على شكر نعمه والصبر له بحقه، فإن الله زايدُ من شكر، ويوفي الصابرين أجرهم بغير حساب، ونرضى لكم طاعة الله ونسخط لكم معصيته، فإنه ((من يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ)) النساء 13 ونحثكم على ذكر الله والأخذ بأمره، فإن الذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد لهم مغفرة وأجراً عظيماً". السير الإباضية ص83

ولا ريب؛ فإن من وراء ذلك حكمة بالغة، فالعلامة ابن ذكوان يريد من قارئ سيرته العمل بها والسير على منهاجها، ولذلك نجده يذكره بتقوى الله تعالى ويخوفه من مغبة الإعراض عن أمره جل وعلا، وأمر آخر نلحظه في رسالته وهو كثرة الاستشهاد بالقرآن الكريم، ليطمئن الواقف على سيرته بأن الأحكام التي جاءت فيها منتزعة من كتاب الله تعالى، مستعرضاً رحمه الله الهدي النبوي في تطبيق شرعه جل وعلا.

كما أن الشيخ رحمه الله تعالى يحذر من أن نقبل من الحق ما يوافق الأهواء، بل يجب تجريد النفس للحق وحده، بدون تعصب للرأي أو الهوى، "فتيسروا لطاعة الله وتهيئوا له، وهبوا لها أنفسكم، ووطنوا أنفسكم على اتباع الحق إن وافق الحق أهواءكم أو خالفها، فإنكم لن تدركوا ما تطلبون، ولن تنجوا مما تحذرون، إلا بترك ما تشتهون". السير الإباضية ص86.

الإسلام وحده الدين الحق


من هذه المقدمة المهمة يدخل إلى الحديث عن الحق الذي يقبله الله تعالى وهو دين الإسلام، وأن الله تعالى لا يقبل ديناً غيره، فما سواه ضلال وبهتان وركام يركمه الله تعالى في جهنم وبئس المصير، ولذلك جاءت دعوات الرسل عليهم السلام متحدة تدعو إلى الإسلام وإن اختلفت الطرائق العملية، فعلى المسلمين أن يعوا هذه الحقيقة، فإن كان أنبياء الله تعالى عليهم السلام دينهم واحداً؛ فأحرى بالمسلمين أن لا يتفرقوا وهم أتباع الرسالة الخاتمة، رسولهم واحد وشريعتهم واحدة.

 


"فإن الله اصطفى الإسلام ديناً رضيه لنفسه، فجعله دين ملائكته وأوليائه وأصفيائه من أهل السموات وأهل الأرض، وبعث به رسلهم كلهم، أولهم وآخرهم إلى أول الأمم والآخرة، ولم يبعث الله نبياً بعد نبي إلا كان حقاً عليه تصديق الأنبياء الذين كانوا قبله والاقتداء بهم، وكان ميثاقاً من الله أخذه عليهم حين أنزله إليهم، أن لا يتفرقوا فيه ومن آمن به، فقال: ((شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ)) الشورى 13 وقال: ((وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً، لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً)) الأحزاب 7-8 وقال: ((وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ، فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) آل عمران 81-82 فرعوا وصية ربهم وبلغوا ما أرسلوا به، ونصحوا لمن أرسلوا إليه، وكان حقاً على من أرسلوا إليه تصديقهم وإجابتهم، فكل رسل الله؛ كلُ سهل الدين، وكانت شريعتهم واحدة وهي عبادة الله، ولم يكن لهم ولا لمن أرسلوا إليه في شيء من أمر الله الخيرة". السير الإباضية ص86-87.

 


فالعلامة سالم بن ذكوان يوظف وحدة الرسالة الإلهية في الدعوة إلى الوحدة بين المسلمين، والمسلمون مهما اختلفت عناصرهم هم أمام الله تعالى سواء، لا فرق بين أبيض وأسود، بل يؤكد تأكيداً واضحاً أن الحر والعبد هما في ميزانه عز وجل سواء لا يتمايزان إلا بتقوى الله، وأن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم الخاتمة هي دعوة عالمية يجب أن تصل إلى كل البشر.

"فبعثه الله إلى الأبيض والأسود والعربي والأعجمي والحر والعبد والذكر والأنثى على فترة من الرسل، وانقطاع من الزمان، وضلالة من العباد، وعمي من الهدى، وظهور من الباطل، وتكبر من الجبابرة، يدعو إلى أن يعبد الله وحده، وتخلص له الطاعة والعبادة". السير الإباضية ص87.

الموقف من مشركي العرب
يرى العلامة ابن ذكوان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل من مشركي العرب إلا الدخول في دين الله تعالى، ولعل ذلك راجع إلى كون جزيرة العرب هي حمى الإسلام ومأرزه الذي يأرز إليه، ولا بد من أن يصان مهد الدعوة ويحمى حماها، فيقول عن ذلك:-

"فدعا قومه مشركي العرب إلى الإسلام، وكانوا يومئذ أبعد الناس من الحق، وأخبرهم أن من دخل منهم في الإسلام فإن الله لا يؤاخذه بشيء كان عليه قبله، وأنه يجب له مثل حق المسلمين، وعليه مثل ما عليهم، ومن تركه منهم قاتله وخمس ماله وقطع الميراث منه، وأنه لا يحل للمسلمين مناكحهم ولا مواريثهم ولا أكل ذبائحهم ولا وفاء بعهودهم حتى يدخلوا في الإسلام؛ ويظهروا الرضى بحكم القرآن، وأنه ليس لقتالهم مدة ولا منتهى دون الدخول في دين الله". السير ص89.

الموقف من أهل الكتاب
وأما أهل الكتاب فهم بالتخيير بين أن يدخلوا في دين الله أو يعطوا الجزية، وذلك راجع إلى كونهم عندهم أثارة من علم الكتاب، وبوقوعهم تحت سلطان المسلمين ودفعهم الجزية جاز نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم؛ فيقول فيهم:-

 


"وأما أهل الكتاب فكان يدعوهم إلى الإسلام وإلى التصديق بالذي جاء به من الله من الحق، فمن عرف ذلك منهم وأقر به كان من المسلمين ووجب له مثل حقهم وعليه مثل الذي عليهم، وفرض الله على من ترك الإسلام منهم وكذب محمداً أن يعطي الجزية -إن أحب- فيحرم بها دمه ويأمن بها على ماله وأهله، فأحل للمسلمين من أهل الكتاب حين يعطوهم الجزية نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم، وحرم نكاح رجالهم وموارثتهم ووفاية بعهدهم أبداً حتى يدخلوا في الإسلام ويظهروا الرضى بحكم القرآن". السير الإباضية ص89.

الموقف من المجوس
المجوس هم مشركون عبدة نيران، ويرى فيهم العلامة ابن ذكوان رحمه الله تعالى لادعائهم أثارة من علم أن يسن بهم سنة أهل الكتاب من حيث قبول الجزية منهم، ولعله أخذ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) موطأ الإمام مالك، ولكن لا تجوز مناكحتهم ولا ذبائحهم، فيقول رحمه الله:-

"وأما المجوس فإنهم ادعوا أثارة من علم، فكتب رسول الله إلى من كان منهم يجهر بكتاب، يدعوهم فيه إلى الإسلام، وأخبرهم في كتابه أنه من دخل منهم في الإسلام فإن الله لا يؤاخذه بشيء كان عليه قبله، وأنه يجب لهم مثل حق المسلمين، وعليه مثل الذي عليهم، وعرض على من ترك الإسلام منهم أن يعطي الجزية فيحرم بها دمه ويأمن بها على أهله وماله، وليس يحل للمسلمين على تحريمهم دماءهم بالجزية مناكحتهم ولا موارثتهم ولا أكل ذبائحهم حتى يدخلوا في الإسلام، ويظهروا الرضى بحكم القرآن". السير الإباضية ص89.

الموقف من المنافقين
المنافقون فئة ظهرت في العهد المدني، دخلوا في دين الله تعالى ظاهراً وإلا هم في حقيقة الأمر غير مقتنعين به، بل إنهم يكيدون للإسلام والمسلمين كيداً، وقد اكتفى منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بظاهرهم، وسيلقون جزاء نفاقهم وغيهم عند الله تعالى؛ يقول ابن ذكوان في سيرته:-

 


"وأما المنافقون فكانوا مرتابين في الإسلام شاكين في البعث، يظهرون لأهل الإسلام دينهم، ويتحرمون منهم باستقبال قبلتهم، فنفعهم ذلك عند المسلمين فناكحوهم وورثوهم وأكلوا ذبحائحهم ووفوا بعهودهم لمناكحتهم إياهم وموارثتهم، وقد كانوا يبرؤون منهم ويستحلون دماء كثير منهم، وإنما أحل الله مناكحتهم وموارثتهم ووفاء بعهودهم -وقد حرم عليهم مناكحة أهل الكتاب وموارثتهم ووفاء بعهودهم- بتحريمهم بدين المسلمين واستقبال قبلتهم، فجعل الله لهم بالذي يحرمون به من ذلك حرمة أحل للمسلمين بها مناكحتهم وموراثتهم ووفاء بعهودهم، وحرم عليهم بها أخذ الجزية منهم، ولم يفعل ذلك يومئذ بأحد من الكفار غيرهم". السير الإباضية ص90.

الموقف من أصحاب الأحداث
والمقصود بأصحاب الأحداث هم من يرتكب جرماً يستوجب قتله، فهؤلاء يقتلون ولكن بدون أن يتعرض إلى أموالهم ونسائهم بشيء، ولا يختلف حكمهم عن حكم المسلمين إلا بتطبيق الحكم الشرعي عليهم بقتله بحسب ارتكابهم للجرم الموجب لذلك القتل، جاء في سيرة سالم بن ذكوان:-

"وكان رسول صلى الله عليه وسلم يقتل من حل عليه القتل ممن يستقبل قبلته، ثم لا يسبي ذريته ولا يخمس ماله ولا يقطع الميراث فيه، ولا ينكح من المسلمين امرأته حتى تعتد وتحل، فكانت هذه سيرة رسول الله في المحدثين من أهل القبلة وسنته التي سن فيهم". السير الإباضية ص90.

الموقف من المخالف في المذهب


لقد استعرضنا رؤية ابن ذكوان رحمه الله تعالى في أصناف من غير المسلمين، ورؤيته في المنافقين وأصحاب الأحداث، ومن المهم بمكان أن نعرف رؤيته فيمن يخالفه في المذهب، يرى الشيخ أن المسلمين بمختلف مذاهبهم ومدارسهم الإسلامية متكافئون، لبعضهم مثلما للبعض، وعليهم مثلما عليهم، بل حتى لو وجد عند بعضهم شيء من المخالفات، فهي راجعة عليهم، وهذا التصور عندما يصدر من العلامة سالم بن ذوكوان فله بعده العميق وأثره الجليل، مما يدل دلالة قاطعة أن رموز المذهب الإباضي منذ أوائلهم –بكونه تلميذاً للإمام جابر بن زيد- يصرون على لم الشعث ووحدة الصف واتحاد الكلمة، فهم يسعون من خالفهم ما لم يكن قد أنكر شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة، فإليكم بعضاً من النماذج الرائعة لنظرة الموحدة بين المسلمين التي وردت في سيرة العلامة ابن زكوان:-

ففي أداء الأمانة إلى أصحابها سواء المخالف للمذهب "قومنا" حسب عبارة السيرة، أو حتى من غيرهم ومنهم أهل الذمة، وفي هذا أيضاً دلالة على البعد الإنساني الذي اختطه الإباضية حسب الشريعة الإسلامية، فالإنسان مهما كان هو آمن في المجتمع الإباضي، فكيف بالمسلم الذي يجمعهم به رابط الإيمان الإسلامي:-
"ونؤدي الأمانة إلى من استأمننا عليها من الناس كلهم من قومنا أو غيرهم".السير الإباضية ص103.

وفي الوفاء بالعهود:-
"ونوفي بعهود قومنا من أهل الذمة، ونرد على أهل الذمة أن استطعنا الذي يأخذونهم به من الظلم من قومنا أو من غيرهم". السير الإباضية ص103.

وفي إجارة المسلم وغير المسلم:-
"ونجير من استجارنا من قومنا ومن غيرهم". السير الإباضية ص103.

وبحكم الآصرة الدينية فإن الإباضية يزوجون بقية إخوانهم المسلمين ويتزوجون منهم، وكذلك التوارث بينهم البين:-
"ونرى مناكحة قومنا وموراثتهم لا تحرم علينا ما داموا يستقبلون قبلتنا". السير الإباضية ص103.

 


ويحرم الإباضية التطاول على المسلمين وخاصة قذف أعراضهم، ويتشددون في ذلك على الخوارج الذين قد يكون بعضهم أصيب بهذا الداء، كل ذلك حفاظ على سلامة المجتمع المسلم من أن تشيع فيه الفتنة، ولكي يبقى لحمة واحدة، لأن الاختلاف في الرأي لا يجيز أبداً أن يتخذ ذريعة للفساد وترويج الأكاذيب:-
"ولا نرى أن نقذف أحداً ممن يستقبل قبلتنا ثم لا علم به، فإن كثيراً من الخوارج يستحلون في دينهم قذف من يعلمون أنه بري من الزنا من قومهم بفراقهم –زعموا- إياه، ولعلهم لم يكونوا كلموه قط، ولا أخبرهم عنه أحد ممن يتولونه أنه كلمه، ولا يدرون على ما هو، قال الله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) المائدة 8" السير الإباضية ص103-104.

والإباضية يتعايشون تمام التعايش مع من يخالفهم في المذهب، بل أنهم يمنعون الانتقال من دار مخالفيهم بدعوى الهجرة كما هو شأن بعض الفرق، وكل ذلك يصب في بوتقة الوحدة الإسلامية، وأن المجتمع الإسلامي مجتمع واحد يشكل أمة واحدة مؤمنة:-
"ولا نرى انتحال الهجرة من دار قومنا كهجرة النبي وأصحابه من دار قومهم". السير الإباضية ص104.

والإباضية يعترفون بحكومات مخالفيهم في المذهب، ويعيشون تحت سلطتهم، طالما أن تلك الحكومات شرعية، وهذا ملمح سياسي مهم جداً، حيث نرى حسم هذه القضية عند الإباضية منذ فترة تأسس مذهبهم:-
"ونرضى من ملوك قومنا أن يتقوا الله، ولا يتبعوا أهواءهم إذا خالفها الحق ولا يجحدوا سنته، ولا يصروا على ذنب بعد معرفة، ويضعوا الصدقة والفيء حيث أمرهم الله". السير الإباضية ص105.

 


ثم يدخل الشيخ رحمه الله في الكشف عن قدرة المذهب الإباضي على التآلف مع بقية الفرق الإسلامية، منبهاً على بعض القضايا التي يجب أن لا تصدر ممن خالفهم، حتى يتم الوئام الإسلامي والصفا الإيماني.

فهم يتعايشون مع السبابة -ويقصد بهم المغالين في التشنيع على خيار الأمة في خير القرون- إذا لم يشنعوا على المسلمين فيما دانوا به من الحق:-
"ونرضى من السبابة أن يتقوا الله، ولم يفارقوا من لم يحكم إلا الله، في أمر قد حكم الله فيه". السير الإباضية ص105.

وهم كذلك لا يأنفون من الخوارج إذا لم يغلوا في دينهم، ولم يستعرضوا المسلمين:-
"ونرضى من الخوارج أن يتقوا الله، ولا يغلوا في دينهم، ولا يرغبوا عن سبيل من هدى الله قبلهم". السير الإباضية ص105.

وهم يكتفون من المرجئة –ويقصد بهم الذين أرجأوا أمر المتقاتلين من الأمة إلى الله تعالى؛ فلم يحكموا على أي من الطرفين- أن لا يقطعوا عذر من حكم على أحد الأطراف طالما قامت له البينة:-
"ونرضى من المرجئة أن يتقوا الله ربهم، وأن يؤمنوا للمؤمنين في ولاية من لم يدركوا من المسلمين". السير الإباضية ص105

ويقول عن "أهل الفتنة":-
"ونرضى من الفتنة أن يتقوا الله، وأن يقروا بحكم القرآن ويوقنوا بوعده، وأن يستحلوا من أهل البغي والعدى والظلم من أحل الله من فراقهم وقتالهم حتى يتوبوا". السير الإباضية ص105

ويرضون بالتعايش مع "البدعية" –وهم المجانفون للسنة النبوية- ما عملوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم:-
"ونرضى من البدعية أن يتقوا الله، ويعملوا بسنة رسول الله ويتولوا على العمل بها وإن ضعفوا عنها". السير الإباضية ص105

وهكذا مع سائر الفرق الإسلامية التي لم يذكرها بأعيانها، حيث جاء في السيرة:-
"ونرضى من ساير قومنا أن يتقوا الله ربهم، ولا يجعلوا حكمه تبعاً لحكم قومهم، وأن لا يمسكوا بعهد قوم يعصونه، فإن الله لم يأذن لأحد أن يعطي عهده من يعصي أمره". السير الإباضية ص102

 


إذاً؛ فالإباضية: "لا يقتلون ذرية قومهم، ولا يستحلون فروج نسائهم، ولا يستعرضونهم، ولا يخمسون أموالهم، ولا يقطعون الميراث منهم، ويؤدون الأمانة إليهم وإلى غيرهم، ويوفون بعهودهم ومن غيرهم، ويأمن عندهم الكاف والمعتزل من قومهم". السير الإباضية ص95.

والذي نلاحظه بجلاء في تحديد الموقف ممن خالف المذهب الإباضي التأكيد على وجوب أن يعتصم هؤلاء بتقوى الله تعالى، فهو الجامع لكل خير، وهذا يذكرنا بما قلنا في أول كلامنا على أهمية تقوى الله تعالى التي تدعو إلى رضى الله تعالى، ووحدة الصف الإسلامي هو من رضاه جل وعلا، والفرقة من سخطه، ثم أن إضفاء التقوى على المذاهب الإسلامية الأخرى دلالة مهمة بأنها كلها تدور في إطار الإسلام، وأن الإباضية حريصون على وحدة الأمة وقوة كيانها.

صفات المسلمين
ثم نجده في سيرته رحمه الله تعالى يؤكد على لزوم الصفات التي تجعل من المجتمع المسلم مجتمعاً واحداً يسوده الإيمان بالله تعالى، وتحكم فيه شرائعه، ويعمل بمقتضى كتابه العزيز وسنة نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم، مجتمعاً تسوده الفضيلة، ويعرف فيه الحقوق الاجتماعية التي تقوي لحمة المجتمع المسلم، وتشد من آصرته وتمتن وشائجه؛ حيث يقول:-

"يحكمون الله وحده، ويرضون سبيل من مضى قبلهم من المسلمين" السير الإباضية ص95.

"نرى حق الوالدين وحق ذي القربى وحق اليتامى وحق المساكين وحق أبناء السبيل وحق الصاحب وحق الجار وحق ما ملكت أيماننا علينا حقاً؛ أبراراً كانوا أو فجاراً". السير الإباضية ص103.

"ويصلون الرحم، ويعرفون حق الجار والصاحب واليتيم وابن السبيل وما ملكت أيمانهم، ويتولى ماضيهم وقاعدهم، لماضيهم الفضيلة التي أعطاه الله، ويتحابون بحب الله، ويتولى بعضهم بعضاً ابتغاء مرضات الله، ويواسي غنيهم فقيرهم ابتغاء وجه الله والدار الآخرة". السير الإباضية ص95.

التوصيات
نود أن نوصي في هذا الملتقى الدولي بهذه التوصيات:-


1- المواصلة في إقامة ملتقيات ومؤتمرات وندوات تدعو للوحدة الإسلامية.
2- وضع منهج تربوي تقرر دراسته في الجامعات والمؤسسات العلمية من أجل نشر فكرة الوحدة.
3- تبادل الكتب والمراجع بين المذاهب الإسلامية، واعتماد الفقه المقارن في التأليف.
4- تكثيف الزيارات المتبادلة بين علماء الأمة الإسلامية.
5- إحياء النقاط المضيئة الداعية للوحدة الإسلامية من ذخائر الأمة وتراث علمائها وأئمتها.
6- تشكيل لجنة من العلماء العاملين النشطين في الحقل الدعوي من مختلف المذاهب الإسلامية للإشراف على تنفيذ برنامج للوحدة الإسلامية، ومتابعة مراحله الزمنية.
7- إصدار مجلة إسلامية باسم الوحدة الإسلامية يكتب فيها المفكرون من مختلف المدارس الإسلامية.
8- إنشاء موقع عبر الإنترنت باسم الوحدة الإسلامية يشرف عليه مفكرون من مختلف المدارس الإسلامية.

وفي الختام؛ أسأل الله تعالى أن يوفق قادة الأمة إلى الوحدة الإسلامية، التي نرجو أن يقيل بها الله تعالى عثرتنا، فيكتب العز والتمكين للأمة الإسلامية، والله الموفق لكل خير، إنه نعم المولى ونعم النصير.


والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


أحمد بن حمد الخليلي
المفتي العام لسلطنة عمان
مسقط – سلطنة عمان

إضافة تعليق